&جمال سند السويدي

تُعَدُّ اتفاقية «سايكس- بيكو» عام 1916، التي تنسَب إلى الدبلوماسيَّين الفرنسي جورج بيكو، والبريطاني مارك سايكس، وقسَّمت المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية في شرق البحر المتوسط (سوريا والعراق ولبنان وفلسطين) بين كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، حدثاً فارقاً في تاريخ المنطقة العربية والعالم، ففي الوقت الذي رسمت فيه الحدود السياسية -المستمرة حتى الآن- لهذه الدول، فإنها بذرت بذور الصراع والخلاف داخلها، أو بينها وبين جيرانها، لأنها قسَّمتها بشكل تعسفي يتفق مع خطوط المصالح ومناطق النفوذ الاستعمارية من دون مراعاة للامتدادات القبَلية والعرقية من ناحية، والامتدادات الطبيعية من ناحية أخرى، إضافة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا. كما وضعت هذه الاتفاقية الأساس لسيطرة اليهود على فلسطين، وإقامة إسرائيل، بما قرَّرته من وضع فلسطين تحت إدارة دوليَّة يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا (وُضِعت تحت الانتداب البريطاني)، ليتم منحها لاحقاً لليهود بموجب وعد بلفور الشهير عام 1917.

وتؤكد «سايكس- بيكو» مدى الخداع الذي مارسته في ذلك الوقت الدول الاستعمارية، وفي مقدِّمتها بريطانيا، في تعاملها مع العرب وطموحاتهم إلى دولة عربية مستقلَّة عن الخلافة العثمانية، إذ ضربت بوعدها الذي قطعته للشريف حسين، ملك الحجاز في ذلك الوقت، بإقامة الدولة العربية الكبرى، مقابل قيادة الثورة العربية ضد العثمانيين في أثناء الحرب العالمية الأولى، عرض الحائط، وبدلاً من إقامة هذه الدولة بعد انتهاء الحرب، فإذا بالأمور تتجه نحو تقسيم المنطقة العربية وتفتيتها، لتتحول إلى ما يشبه «غنائم الحرب» بالنسبة إلى بريطانيا وفرنسا.

ولعل من الأمور ذات الدلالة في هذا الشأن، أن التوصُّل إلى هذه الاتفاقية قد تم عبر مفاوضات استمرت خلال عامي 1915 و1916، وهي الفترة نفسها التي استغرقتها مراسلات (الحسين- مكماهون) بين الشريف حسين والسير هنري مكماهون، الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر، التي كانت تدور حول إقامة دولة عربية مستقلَّة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. كما أن عام 1916 -تاريخ توقيع الاتفاقية- هو العام نفسه الذي انطلقت فيه الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين عبر تفاهم بين الشريف حسين وبريطانيا، ما يدل على أن نية بريطانيا كانت مبيَّتة للنكوص عن وعودها للعرب منذ البداية.

ونتيجة للألغام المتعمَّدة، التي وضعتها «سايكس- بيكو» في الحدود السياسية العربية، فإن إعادة رسم الخرائط والحدود ظلت سيفاً مصلتاً على المنطقة باستمرار للتهديد تارةً، والابتزاز تارةً أخرى. وعلى مدى السنوات الماضية ظهرت بالفعل مشروعات وخطط لإعادة رسم خريطة المنطقة، لكنها ظلت حبيسة الأوراق من دون أن تجد طريقاً إلى التنفيذ على أرض الواقع، لكن التطوُّرات والتفاعلات والتغيرات، التي نتجت ممَّا عُرِف بـ«الربيع العربي»، أكسبت الحديث عن خرائط جديدة زخماً واضحاً، بالنظر إلى حالة السيولة والرخاوة التي شهدتها حدود «سايكس- بيكو»، التي بدت وكأنها في حالة إعادة رسم لها بقوَّة الواقع. ولعل حالة «الدولة»، التي أعلنها تنظيم «داعش» الإرهابي، كانت التعبير الأخطر عن إعادة رسم الخرائط والحدود، فهذه «الدولة» المزعومة تلغي عملياً أجزاءً كبيرة من العراق وسوريا، وتمهِّد بشكل مباشر، أو غير مباشر، لإعادة رسم خرائط المشرق العربي تحديداً، وفق محدِّدات الانتماء العرقي، بل حتى السياسي والمذهبي، ففي العراق مثلاً هناك دعوات متكرِّرة إلى إعادة تقسيم البلد إلى ثلاث دويلات إحداها شيعية، والأخرى سُنية، والثالثة كردية. وفي سوريا يتم الحديث مراراً وتكراراً عن دولة «الساحل السوري»، التي يُراد لها أن تكون دولة علويَّة الطابع، وهو ما يعني تلقائياً، في حال حصوله، ميلاد دولة الشمال السوري التي ستكون سُنية الطابع والتوجه، كما أن هناك من يطالب بإقامة «دولة سُنية مستقلة» تضم المناطق التي سيطر عليها تنظيم «داعش» في كلٍّ من العراق وسوريا.

لقد أبرِمت «سايكس- بيكو» سراً عام 1916، ولم يتم الكشف عنها إلا بعد عام، أي في عام 1917، وذلك بعد وصول الشيوعيين إلى السلطة في روسيا، فضلاً عن أن مقرَّراتها تبلورت في خطوات عملية أو تنفيذية في اتفاق «سان ريمو» عام 1920، الذي حدَّد مناطق النفوذَين الفرنسي والبريطاني في منطقة المشرق العربي، أي بعد أربع سنوات من إبرامها، وهذا يعني أن عدم ظهور خطط معلَنة تتبناها قوى محدَّدة لتقسيم المنطقة، خلال المرحلة الحالية، لا يعني أن هذه الخطط غير موجودة، وربَّما تتضح ملامحها ومعالمها في الوقت المناسب.

إن المنطقة العربية وشعوبها هي التي دفعت، على مدى المئة سنة الماضية، الثمن باهظاً لاتفاقية «سايكس- بيكو»، التي بدت وكأنها عملية بتر قسري وفرض حدود بين مناطق ذات هوية ومكوّنات واحدة، وفي بعض الأحيان دمج مجموعات غير متجانسة وذات اختلافات جوهرية في كيان واحد، وفق منطق مملوء بالألغام وعوامل التفجير التي دائماً ما كانت تبرز بين الفينة والأخرى، وهو الأمر الذي عرقل عملية التنمية في هذا الجزء من العالم، وجعله يعيش التخلُّف وكأنه قدره المحتوم.

واليوم، بعد مرور قرن من الزمن على «سايكس- بيكو»، يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن في شكل أكثر مأساوية هذه المرة، فبعض مناطق العالم العربي تعيش حالة إعادة رسم للخرائط والحدود، وموجة عاتية من الفوضى والاضطراب تهدد كيانات الدول القائمة، وتنذر بخلق دويلات «طوائف وأعراق ومذاهب» تعيش متفرِّقةً في كانتونات من العزلة والانطواء، وتقوم بينها الثارات والحروب، وتتسيَّدها تنظيمات عنيفة لا تؤمن إلا بالدم والإرهاب وصناعة التمزيق.

وإذا كانت خطوط «سايكس- بيكو» الأولى قد رسمها الاستعمار وفق مصالحه، فإن الخطوط الجديدة، التي يُراد رسمها في «سايكس- بيكو» الثانية، هي خطوط طائفية وعرقية معبأة بالأحقاد والعداوات التي ستنفجر دماً وخراباً يغرقان المنطقة كلها في مستنقع الفوضى، وتهدف إلى خلق شرق أوسط جديد بتوازنات مختلفة ومختلَّة لغير مصلحة العالم العربي، لأنها تصبُّ في خدمة مصالح قوى إقليمية غير عربية أهمها إيران وإسرائيل، فالأولى سيتحقق هدفها في إقامة دويلات شيعية ترتبط بعلاقات وثيقة معها، والثانية ستجد حلمها القديم، المتمثل في تحويل المنطقة إلى دول للطوائف، متجسِّداً أمامها، وحينها لن تكون غريبة عن محيطها، فهي دولة لليهود، مثلما هناك دول للشيعة والسُّنة والأكراد. والسؤال هنا هو: هل تدرك منطقتنا حقاً خطورة ما يجري الآن وتأثيره في مستقبلها، أم أنها تسير مغمَضة العينين نحو مصيرها المحتوم؟