عبد المطلب أعميار
تشكل انتخابات 07 أكتوبر أهم عنوان سياسي للمرحلة الراهنة لاعتبارها ثاني محطة انتخابية بعد دستور الفاتح من يوليوز2011. ولأنها كذلك فإن تناولها بالتحليل يقتضي مقاربة السياق السياسي العام الذي تندرج في إطاره. وهو السياق الذي يفرض إعادة النقاش العمومي إلى مساره الطبيعي خارج لغة المزايدات، والتضليل الإعلامي. والمسار المنطقي الذي ينبغي أن يستقر فيه النقاش العمومي هو تقييم الحصيلة الدستورية، والتشريعية، والأداء الحكومي لما بعد 5 سنوات من حكم العدالة والتنمية.غير أن أطرافا عديدة تدفع في اتجاه تحريف النقاش العمومي بترويج طروحات تمس في الجوهر مبدأ الاختيار الديمقراطي الذي أصبح ركنا دستوريا ضمن ثوابت نظام الحكم،وعوض التداول في قضايا الشأن العام من بوابة قراءة الحصيلة الحكومية، يتم التشكيك في منطلقات العملية السياسية برمتها من خلال التشكيك في بنية و أسس الدولة،والعمل على مقايضة العملية الانتخابية مقابل توظيف ورقة " الاستقرار السياسي".
لقد اقتضت تقاليد النقاش العمومي في مختلف التجارب الديمقراطية أن يوجه الرأي العام في اتجاه تحفيز الناخبين والناخبات على المساهمة في تقييم مسارات السياسات العامة، ومعها الاختيارات والقرارات التي تم اعتمادها طيلة مدة الحكم، وبالتالي تشكيل اتجاه لصناعة رأي عام انتخابي بما يؤمن للعملية الانتخابية كافة الحظوظ لإضفاء الشرعية الديمقراطية عليها، ومن خلالها إضفاء الشرعية على المؤسسات، وعلى السير الدستوري السليم للقرار العمومي. ويلعب الفاعلون هذا الدور ، كل من موقعه، لتقوية الإحساس الجماعي بالانتماء للمنظومة الديمقراطية ، بأبعادها المختلفة. وقد يعرف المجال السياسي توترات عنيفة، وردود أفعال قوية بين مختلف الفرقاء والأطراف المتصارعة، غير أن الوعي بشرعية العملية السياسية والديمقراطية يمر بالضرورة عبر احترام قواعد الترسيخ الديمقراطي،و سيادة الدولة، وشرعية المؤسسات.
غير أن المتتبع لمجريات النقاش العام ببلادنا، ولبعض ردود الأفعال الصادرة عن بعض القيادات الحزبية،ومنها على وجه التحديد قيادة العدالة والتنمية، يسائل مدى تمثل هؤلاء لمفهوم " الخيار الديمقراطي" الوارد في الدستور، ولمدى إيمانهم بالمسألة الديمقراطية كرهان مؤسساتي من شأن الإخلال بمبادئه، ومرتكزاته ضرب مصداقية الدولة ، وأسس النظام السياسي ككل.
ولعل هذا ما يشكل خطرا حقيقيا على التجربة الديمقراطية بالمغرب. فما معنى مثلا أن يصرح رئيس الحكومة بأن " حزبه سيفوز بالانتخابات المقبلة، وأي إخلال سيؤدي الجميع عواقبه ونتائجه". أو أن يقول بأن في المغرب دولتان."واحدة يقودها جلالة الملك، والأخرى لا نعرف من يقودها، ولا من أين تأتي قراراتها، ولا من أين تأتي تعييناتها"، أو يصرح أيضا" نحن ندافع عن النظام لأنه ماشي ديال محمد السادس هو ديال المغاربة كاملين"..وما معنى أن يكرر أحد القياديين في العدالة والتنمية ما سبق أن قاله بنكيران نفسه بكون حزب العدالة والتنمية استعمل للاستقرار، " ولذلك لا يمكن أن يقبل رميه لمزبلة التاريخ"؟.
إن توقيت هذه التصريحات بقدر ما تعيد إلى الأذهان تلك الخرجات الإعلامية التي كانت تستهدف النظام السياسي من قبل زعماء العدالة والتنمية، عشية 20 فبراير، وما بعد تشكيل حكومة بنكيران في سياق ما عرفه الشارع المغربي من حراك، بقدر ما تعمل- وبشكل مقصود- على إفراغ المسار الدستوري لما بعد يوليوز 2011 من كل محتوى سياسي تعاقدي، وإرجاع عقارب الساعة إلى أجواء ما قبل 20 فبراير من خلال إشهار مقولات " التحكم" و " الاستقرار" و"الدولة العميقة"...الخ، والتشكيك المستمر في منظومة الحكم القائم بالتمييز- هذه المرة- بين الملك من جهة، و بين ما يسمونه ب" الدولة العميقة" من جهة أخرى، أي ما كان يسميه بنكيران في العديد من خرجاته ب " محيط الملك". وهذا التمييز يعاد إنتاجه اليوم في الخطاب السياسي للعدالة والتنمية بالقول بوجود دولتين في المغرب. دولة الملك من جهة ، ودولة أخرى تقرر، وتعين من جهة أخرى.
ما معنى هذا الكلام سياسيا؟
معناه – وبكل بساطة- التشكيك في منظومة الحكم من خلال القول الصريح بأن دولة الملك محمد السادس لا تحكم، وبأن دولة أخرى هي التي تحكم وتقرر في المغرب. وهذا التمييز المقصود يضرب المفهوم الدستوري للنظام بوصفه مؤسسة (أول كلمة في الدستور في الفصل 1 وهي نظام الحكم) في مقابل الترويج لطرح تجزيئي يستهدف بنية الحكم بالقول بوجود دولتين. ولإضفاء المشروعية على هذا التحليل، يقول رئيس الحكومة- بأنه جاء للحكومة، ولم يأت إلى السلطة.بما يعني، أن تواجده على رأس الحكومة لا يؤمن له السلطة التنفيذية المنصوص عليها دستوريا،لأن الدولة الثانية( وهي التي تقرر) لا تسمح لرئيس الحكومة بممارسة السلطة.
وإذا كان الدستور المغربي ينص على اختصاصات السلطة التنفيذية للحكومة، فإن بنكيران يتعمد خلط الأوراق من أجل " قتل الدستور" في مقابل التشكيك في منظومة الحكم بالتمييز بين دولتين. وإلا ما معنى أن تكون رئيسا لحكومة لا تحكم ، وتطمع في المزيد من الحكم، بل وتقايض البقاء في السلطة مقابل الترويج لمقولة الاستقرار. بما يعني بأن أي سيناريو انتخابي لا يعيد العدالة والتنمية إلى السلطة ، ستكون نتائجه وخيمة على استقرار البلد.
وقد يكون من المفارقات الغريبة في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، أن رئيس حكومة مغربية يهدد الدولة، ويرهن استقرارها في خرجات إعلامية متكررة مقابل البقاء على رأس الحكومة. وفي هذا السياق، يكفينا أن نتساءل. إذا كان بنكيران لا يحكم حقيقة، ولا يمارس السلطة التنفيذية،فلماذا يا ترى يصر على تهديد الدولة بالبقاء على رأس الحكومة.ويقايض استقرار المغرب بالبقاء لولاية أخرى.
إن القول بوجود دولتين في المغرب عشية الانتخابات يكشف المأزق السياسي لحزب العدالة والتنمية لتبرير فشله في تدبير السياسات العمومية و سقوطه في ترجمة وعوده الانتخابية على أرض الواقع ،وهو هروب إلى الأمام من أجل تحريف النقاش العمومي بشكل مقصود من أجل خلق رأي عام يناهض العملية الديمقراطية ويشكك في صدقيتها، وينفر الناخبين من صناديق الاقتراع، في مقابل سعي الحزب الحاكم إلى الحفاظ على قاعدته الانتخابية. وعوض أن ينجر الحزب الحاكم إلى دائرة الحساب وتقديم الحصيلة، وفي مقدمتها إغراق المغرب بالمديونية وتحقيق أضعف نسبة نمو منذ عقود ، يسعى إلى توهيم الرأي العام بالقول بأن جهات في الدولة تحاربه، وتعرقل " مساعيه الإصلاحية". والرهان من خلال ذلك على اللعب في رقعة " الضحية"( وهي رقعة مفيدة بالحساب الانتخابي)، وتؤمن له الدخول إلى المنافسة الانتخابية بأقل الخسائر الممكنة، مقارنة برقعة الحساب وتقييم الحصيلة. وفوق هذا وذاك، الإعلان القبلي بأن " الدولة الثانية"- (وهي التي تقرر) لا ترغب في عودة العدالة والتنمية إلى الحكم. وسيكون هذا الادعاء هو الورقة الانتخابية التي ستتجند أصوات البيجيدي إلى الترويج لها، في محاولة لجر العملية الانتخابية إلى صراع مفتوح بين النظام وبين العدالة والتنمية لتهييء كل الطعون المحتملة ضد شرعية العملية الديمقراطية.
التعليقات