&باسم الجسر&&&
على الرغم من شك معظم اللبنانيين بجدوى «طاولات الحوار» التي «لم يطلع منها شيء»، وخيبتهم من جراء عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس للجمهورية، وسن قانون جديد للانتخابات النيابية، واقتصار الحكومة على تصريف الأعمال. بل على الرغم من الضائقة الاقتصادية التي أصابت معظم قطاعاته، فإن لبنان، مقارنة بما تعاني منه بعض الدول والشعوب العربية الشقيقة لا يزال - إلى حد ما - بخير. فالتوترات السياسية، أو الطائفية، أو المذهبية، لا تتعدى درجة محتملة من الحدة والتحدي، والمظاهرات الشعبية لا تتعدى في عنفها حرق إطارات السيارات، وقطع الطرقات لمدة ساعة أو ساعتين. وبين مظاهرة وأخرى تضيق المسابح البحرية بروادها، والمطاعم والمقاهي بزبائنها، وتكاد الحفلات الفنية والموسيقية تحول ليالي لبنان إلى مهرجان متواصل. فمن جهة، يمسك اللبنانيون قلوبهم خوفًا من تحول التوتر إلى انفجارات، وجمود المؤسسات العامة إلى شلل المؤسسات العامة، وتطمئن قلوبهم - من جهة أخرى - لمشاهدة السياسيين وكبار رجال الدين من كل الطوائف يجتمعون، ويتحاورون، ويتبادلون عبارات المودة والحرص على الوحدة اللبنانية، وعلى تدعيم سلطة الدولة، ومقاومة الإرهاب (على الرغم من خلافهم على تحديده، أو على تسمية ممارسيه).
ويتساءل كثيرون عن سر جمود التوتر السياسي في لبنان عند حد ما، وعدم تصاعده وانفجاره، وعن عدم انتقال الحرب الأهلية في سوريا، وشبه الحرب الأهلية في العراق، إلى لبنان، على الرغم من وجود عناصر مرتبطة، أو موالية، أو متعاطفة، مع الأفرقاء المتقاتلين في هذين البلدين، ومن وراءهم.
والجواب يكاد يكون بسيطًا، ويمكن تلخيصه بالقول الشهير: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين». فخمس عشرة سنة من الحرب الأهلية، التي بلغ عدد ضحاياها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشردين، ما زالت فصولها وذكرياتها ماثلة في ذهن كل لبناني، ولا سيما نتائجها التي لخصت بشعار «لا غالب ولا مغلوب»، أضف إلى ذلك أن الدول الإقليمية والأجنبية التي تقاتلت على أرض لبنان، وبواسطة بعض أبنائه بين عامي 1975 و1989، تفضل – اليوم - تصفية حساباتها في سوريا والعراق وليبيا، وأوكرانيا استطرادًا، لا في لبنان.
ثمة عامل آخر من بين عوامل تجميد النزاعات والتوترات السياسية والحزبية والمذهبية عند حد ما في لبنان، ألا وهو وجود مؤسسات ديمقراطية ودستورية حية وعاملة، رغم تباطؤ عملها، أو تحجيم دورها. فهناك حكومة تجتمع، وتقرر ما تستطيع أن تقرر، وهناك مجلس نواب ولجان نيابية تجتمع، وإن كان إنتاجها مبتسرًا. وهناك الجيش اللبناني الذي تتجسد فيه الوحدة الوطنية، وقوى الأمن الداخلي التي لعبت دورًا مهمًا في توفير الأمن وملاحقة المخلين به، ولا ننسى المؤسسات المالية والإدارية والقضائية والنقابات التي لم تتوقف عن تأدية وظائفها ودورها، رغم الأجواء المشحونة والتوترات العابرة.
عامل آخر وراء نجاة لبنان من السقوط مجددًا في هاوية العنف، ألا وهو حرص الدول الكبرى، ومعظم الدول العربية، على مساعدته للوقوف على رجليه وطنيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وقد ترجمت هذه المساعدة إلى مليارات من الهبات والمساعدات.
إلا أنه على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية التي تدعو إلى التفاؤل، أو تسكن النفوس وتستبعد العنف سبيلاً لحسم النزاعات، فإن معظم اللبنانيين غير راضين، وغير مطمئنين إلى ما ينتظرهم من مصير نتيجة للصراعات الدامية التي تدور على أبواب وطنهم في سوريا والعراق، ومآل الحرب العالمية الجديدة على الإرهاب التي قد تطرق أبوابهم. إنهم في قرارة أنفسهم يحلمون بإقامة دولة مدنية وتجاوز الطائفية السياسية، وبقيام دولة مؤسسات ديمقراطية، وتحول الإنسان اللبناني من هويته الطائفية السياسية إلى مواطن. ولكن على الرغم من هذه الأمنية المتنامية يومًا بعد يوم، يدرك اللبنانيون أن الأحزاب السياسية والطائفية والزعامات السياسية التي تحتل الصف الأول من مقاعد التمثيل والحكم، لن تتخلى بسهولة عن تمثيلها للشعب، والحكم باسمه. كما يدركون أن الأحزاب والزعامات السياسية القابضة حاليًا على زمام الأمور والتقرير عاجزة عن الاتفاق والإقدام على ما هو مطلوب منها كحد أدنى مبرر لوجودها، أي انتخاب رئيس للجمهورية، وسن قانون للانتخابات، وتطبيق ما لم يطبق من اتفاق الطائف، من أجل إخراج الدولة والوطن من الحلقة المفرغة، بل والساخنة والمرشحة للالتهاب، أو الانفجار. أما طاولة الحوار التي هرب المتحاورون حولها من الموضوعين الأساسيين، أي انتخاب رئيس للدولة، والاتفاق على قانون للانتخابات، وفتح باب جديد للجدل حول طائفة رئيس مجلس الشيوخ (درزي أم أرثوذكسي؟)، فلم تكن أكثر من «حوار طرشان»، بين أقوال المتحاورين ونياتهم فيها.. مسافات.
لسوء الحظ، وكالعادة، لن يخرج لبنان من محنته الراهنة إلا بقرار أو اتفاق، أو ضغط حدث إقليمي أو دولي، أو الاثنين معًا. عندها يتحول حوار الطرشان بين الأحزاب والزعامات اللبنانية إلى اتفاق وطني جديد، كما حدث عام 1943 وعام 1989.
&&
التعليقات