يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شادية العارف
مع ثورة التكنولوجيا وانتشار العولمة، شهد العالم تحولات كبرى في كل المجالات، خصوصاً في شروط إنتاج السلع والخدمات. عالم جديد ازدادت فيه حدة التنافس بين الشركات مع انفتاح الأسواق العالمية، ما أدى إلى تغيرات في سوق العمل وفي التعاقد. أصحاب العمل وجدوا ألاّ بد من القطع مع الطرق القديمة في العمل والإنتاج والبحث عن طرق بديلة تتناسب مع الأوضاع الجديدة التي تتسم بالتقلبات وغياب الاستقرار.
كان لا بد لأصحاب الشركات من البدء بتغيير مفهوم العمل والعلاقة التي تربط الإدارة بموظفيها لجهة الحقوق والواجبات. فبعدما كانت مؤهلات الموظفين تُحدَّد على أسس موضوعية تتعلق بالكفاءة العلمية والمهنية، إذ كان المستوى العلمي يُقاس على سلّم هرمي لتحديد الأجر على أساسه إلى جانب طبيعة العمل ومستوى المسؤولية، أصبحت هذه المؤهلات ترتكز على مفهوم آخر هو «المهارة» إذ يحدد صاحب العمل محتوى العمل ويقوّم على أساسه عمل الموظف وأجره.
بكلام آخر، أصبح التقويم ذاتياً، وحصل تحول من تقويم الكفاءة المطلوبة للمنصب أو فرصة العمل إلى تقويم للإنسان الذي سيشغل المنصب. وأُطلِق على هذا التحول اسم «مرونة العمل» - مرونة في ساعات العمل ومرونة في الأجور - ما يؤدي عملياً إلى إلغاء عقد العمل. ويرى البعض المرونة شرطاً ضرورياً للقدرة على التنافس، فيما يرى البعض الآخر فيها مرادفاً لانعدام الأمان الوظيفي واضطرابه. فهل السعي إلى المرونة ناتج من صعوبات خارجية يفرضها التنافس أم أنه بداية لنمط إداري جديد؟ يقود منطلق هذه التحولات وهذه المرونة إلى استغلال الأجير إلى أقصى حد ممكن من أجل الوصول إلى أعلى مستوى في الربح بل إلى فائض إيرادات لم يسبق له مثيل في تاريخ الرأسمالية.
من الناحية الاقتصادية، سعت الشركات إلى مرونة التنظيم والإنتاج كي تتأقلم مع التقلبات السريعة للسوق والتغيرات التكنولوجية التي لا تتوقف، لذلك لجأت إلى هذه المرونة مستخدمة نوعين من العمالة: عمالة ثابتة ومستقرة تشكل قلب الإدارة وعمالة غير مستقرة تبقى على هامش الشركة، ما أدى إلى تفاقم ظاهرة الاستعانة بيد عاملة خارجية وتنويع الموظفين في مجال الأمن الوظيفي والأجور.
هذه التجزئة لسوق العمل وما نتج منها من ازدياد للتباين في إدارة اليد العاملة بكل مستوياتها كانت تهدف طبعاً وفي شكل أساسي إلى خفض التكاليف وزيادة الربح.
قد نتساءل لماذا لم يقاوم العمال والنقابات كثيراً هذه «المرونة» في العمل، بل وتعاونوا أحياناً في تحولات تؤدي إلى تكثيف العمل من دون تحسين الأجور. قد يكون التخويف من البطالة جزءاً من الإجابة، لكن ثمة حقائق أخرى أظهرتها دراسات في علم اجتماع العمل تتحدث عن إستراتيجيات اجتماعية ينفذها العمال للخروج من «نمط الإنتاج المرن» أو جعله مقبولاً وحتى التمتع به أحياناً.
لماذا القبول بهذا الخضوع الطوعي للاستبداد؟ هل هو من طبيعة الإنسان؟ هل خضعت المجتمعات الإنسانية منذ الأزل للاستبداد أم هل أن هذا الخضوع تاريخي ظهر في فترة معينة ولسبب معين؟ مؤكد أن شيئاً ما حصل وأدى إلى انتقال الإنسان من الحرية إلى العبودية - شيء ما كارثي غيّر من طبيعة الإنسان وعلاقات البشر في ما بينهم فانقسم المجتمع إلى قسمين، حاكم ومحكوم، ثم نسي الإنسان الحرية وتعود العيش في مجتمع هرمي يهيمن فيه البعض على البعض الآخر، واعتاد هذا السلوك فأصبح ينشئ أولاده عليه.
لا شك في أن ثمة صراعاً وتناقضاً في علاقات العمل المأجور، يعود إلى الطبيعة المزدوجة لعلاقات هذا العمل المكونة من صراعات وتناقضات واتفاقات والتي تفاقمت مع نظام العولمة الذي حوّل أصحاب العمل إلى مجموعة من المساهمين المنتشرين حول العالم والراغبين دائماً في مزيد من الأرباح. أما كيف يحدث هذا التمفصل القائم في العلاقة بين مفهوم التسوية من جهة ومفهوم العبودية الطوعية من جهة أخرى فموضوع آخر.
التعليقات