رائد السمهوري
هناك من يؤرخ الأحداث بـ «حسن نيّة»، ولا يتفطّن إلى ما يمكن أن يلزم من خطابه هذا، وهناك من ربّما يكون متعمّدًا إكساء الحوادث التاريخية ثوبًا من «أيديولوجياه»
أوضح المؤرخ والمنظّر التاريخي الكبير وجيه كوثراني في كتابه «تاريخ التأريخ»، أن هناك فرقًا بين التاريخ وبين التأريخ، فاللفظة الأولى تدل على الحدث بما هو حدث، وتدل اللفظة الثانية على «التعبير عن هذا الحدث»، فالتأريخ (بالهمز) خطابٌ قابل للتأويل، وتعبير عن نظرة المؤرخ إلى الحدث في ألفاظ وتعابير بخطاب لغويّ مقروء، يجري عليه ما يجري على سائر الخطابات من تأويل وفهم وتفسير.
شهد تاريخ المسلمين وغيرهم أحداثًا كثيرة مشهورة، منها مثلًا الفتوحات الإسلامية، ثم التوسّع الذي جرى في عهد الأمويين (يراه ناس فتوحات إسلامية، ويراه آخرون توسعًا عروبيًا ملوكيًا، ويراه معاصرون استعمارًا عربيًا)، ومنها ثورات كثورة الزنج وثورة القرامطة، وحتى تعبيري أنا شخصيًا عن هذه الأحداث التي قام بها الزنج والقرامطة بأنها «ثورات»، هو تعبير عن شيء حصل، لم أجد لفظة تسعفني سوى أنها «ثورات»، لكن هل كانت ثوراتٍ فعلًا؟ اللهم إني لا أدري! وهذا هو المأزق الذي يحتاج إلى نظر، ولعله يلفت الانتباه إلى أن اللغة ربما تكون عاجزة عن تصوير ما جرى تصويرًا دقيقًا، وعن إعطائه الوصف اللائق به.
هناك من يؤرخ الأحداث، أو يتكلم عنها بـ«حسن نيّة»، تجري الألفاظ على لسانه وقلمه من دون قصد، ولا يتفطّن إلى ما يمكن أن يلزم من خطابه هذا، وهناك من ربّما يكون متعمّدًا إكساء الحوادث التاريخية ثوبًا من «أيديولوجياه»، ورؤيته الشخصية أو الحزبية أو الفكرية أو العقائدية للتاريخ، وهذا ما يجري حتى في عصرنا هذا.
فثورات الربيع العربي يراها قوم ثورات من أجل الحقوق والحريات والمساواة والتخلص من الظلم والبطش والتسلط، من دون نظر إلى مسألة «مسلمين وكفّار»، و«مشروع إسلامي ومشروع علماني»، و«سنة وشيعة»... إلخ. وهناك من لا يراها ثورات أصلًا بل يراها مظاهرات وانتفاضات، وهناك من ألبسها ما شاء من لبوس الأيديولوجيا، فإذا هي نزاع طائفي سني شيعي تارة، وإذا هي نزاع إسلامي علماني تارة، وهكذا.
وقد شاع عند بعض الباحثين والكتّاب مثلًا الحديث عن «حرية الرأي والتعبير» في العهد الأموي! أو عن الديمقراطية في الكتاب والسنة، أو عن «اشتراكية الإسلام» أو رأسماليته، أو الصراع الطبقي في ثورة الزنج أو ثورة القرامطة، أو عن «الاستعمار» العروبي أو الإسلامي في الفتوحات.
كل هذه الأوصاف ما هي إلا قراءات أيديولوجية «سخيفة» ومتحيّزة للأحداث التاريخية، فالاستعمار مثلًا فلسفة حداثية لها علاقة بالرأسمالية والبرجوازية، وكذا ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير له علاقة بالديمقراطية، وقل مثل هذا في الاشتراكية والرأسمالية وما يرتبط بكل هذا. كل تلك المصطلحات إنما ظهرت في سياقات، وفي ظروف، وفي أحوال وأوضاع معيّنة، لا يصح انطباقها على التراث الإسلامي، كما لا يصحّ تأييدها بانتزاع أحداث تاريخية ثم إلباسها إياها. ويا لغباء من يلوم «الصحابة» أنهم لم يكونوا ديمقراطيين، أو من يريد أن يقيس «حرية المرأة» زمن الصحابة، بما بلغ إليه العالَم الحديث قبل قرن واحد من الزمن.
فالاشتراكي مثلًا لا يفكّر في الدين حال كونه عاملًا من عوامل الوعي والتحرر، بل ينظر إليه أنه «أفيون الشعوب»، وأنه يستعمل استعمالًا لإرضاخ «البروليتاريا»، والتسليم بالأمر الواقع، والخضوع للاستغلاليين والبرجوازيين وغيرهم، وبناء على هذه الأيديولوجيا يفسّر التاريخ كله، ويرى أحداثه من عدسته هذه التي قد تكون محدّبة أو مقعّرة، وتجده يقسر التاريخ قسرًا ليتفق مع هذه الأيديولوجيا.
وقد لفتتني دراسة لمؤرخ هنديّ اسمه راناجيت غُها يتحدث فيها عن ثورات الفلاحين الهنود ضد الإقطاعيين في أواسط القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، وقد لاحظ أن المؤرخين إنما أسقطوا «وعيهم هم» الاشتراكي البروليتاري الثوري على تلك الأحداث، من دون أن ينظروا إلى «وعي الفلاحين» أنفسهم، لم تمردوا؟
يذكر هذا المؤرخ أن خضوع أولئك الهنود للإقطاعيين كان مدعومًا أيضًا بالخطاب الديني، غير أنه استطاع أن يأتي بما كان واردًا على ألسنة الفلاحين، والأساطير التي كانوا يتداولونها، ويستلهمونها في تمردهم، قاصدًا دراسة ما حدث عن طريق وعيهم هم، لا وعي المؤرخين المؤدلَجين.
لاحظ راناجيت غُها أيضًا أن الخطاب التاريخي «يتغيّر» كلّما امتدّ الزمن، فالوثائق التي كتبت «فورًا» إبان تلك التمردات ليست ما ذكر المؤرخون بعد تلك التمردات بقليل، وما كتبه المؤرخون بعد التمرّدات بقليل، ليس كالذي كتب بعد ذلك بمدّة تطول.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن البعد عن الحادثة يؤثر أيضًا في طريقة الكتابة عنها، ويعطيها أبعادًا ربما لم تكن موجودة زمن جريان الحدَث. وينقل المؤرخ عن مستندات معاصرة أن «السلطات» كانت تسمّي أولئك المتمردين «متعصّبين» ولم تكن تنظر إلى أفعالهم بوصفها تمردات حقوقية، ولا ثورات طبقيّة. وقد لاحظ الباحث من تلك الوثائق التي يرجع إليها أنها «متحيزة»، فجميع المعاصرين لها، والكاتبين عندها كان كل ينظر إليها من زاويته هو، ومن انتماءاته وتحيزاته هو.
المقصد من استدلالي السابق بهذا الباحث الحذر في تناول التاريخ إسلاميًا وغير إسلامي، والتنبّه إلى تحيز المؤرخ وانتماءاته، من دون «تسليم» بما يذكر. والحذر كذلك من أولئك الذين يريدون «قسر» التاريخ على أفكارهم الشخصية والرؤيويّة، لأسباب أيديولوجية لا تعير الحادثة اهتمامًا إلا من جهة ما تؤيد به غرضهم الفكريّ.
التعليقات