محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
جدلٌ واسعٌ احتدم مؤخرًا في وسائط الإعلام الاجتماعي حول مفهومي «الليبرالية» و»العلمانية» في سياق تراجع الإيديولوجيات التي تستند على الدين كمرجع وحيد لها، بعد انكشاف تورط بعض الأحزاب الدينية في تشجيع العنف، والتسبب في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة. ونظر البعض لليبرالية والعلمانية على أنهما مفهومان منفصلان، أحدهما يتعلق بتحييد الدين عن الحياة الاجتماعية والسياسية، والآخر يدعم الحريات الفردية، ولم ينظروا لارتباطهما الوثيق ببعضهما ولا لتطورهما المتزامن، ولا لكونهما وجهين لعملة واحدة.
الليبرالية والعلمانية مفهومان غربيان خاصان بامتياز حتى ولو تمت عولمتهما فيما بعد، وتطورا على خلفية السياقات الفكرية والسياسة والاجتماعية والدينية للمجتمعات الغربية لا سيما فرنسا وألمانيا وأمريكا؛ وشكلا ردة فعل طبيعية لممارسات الكنيسة والإقطاع في أوربا في العصر الوسيط التي اتسمت بظلم إقطاعي شنيع لا مثيل له في تاريخ البشرية. وصورت الكنيسة هذا الظلم على أنه إرادة إلهية محضة لا دخل للبشر فيها وعلى عموم المسيحيين قبولها والتسامح معها حتى يرضى عنهم الرب رضىً أبدياً لا رضىً وقتياً. واعتبر عامة رعية الإقطاع نتيجة لتفشي الجهل بينهم القساوسة ممثلين للرب في الأرض. أما الإقطاعي فهو منفذ إرادة الرب وحامي ممثله في الأرض. ولا شك بوجود فرضيات «ثيولوجية» مشابهة في ثقافات أخرى كالبوذية، والهندوسية، وربما اليهودية، ولكن وضع الكنيسة في أوروبا كان الأسوأ، وفيه فقط تم بيع صكوك ومنازل في الجنة.
مصطلح ليبرالي مشتق من كلمة «ليبرتي» وتعني «الحرية»، ومرجعها بداية انعتاق الناس من حكم الكنيسة وسلطة رجال الدين. وظهرت كحركة سياسية هدفها التخلص من الظلم الاجتماعي والقهر السياسي الذي يستند في مشروعيته على أمور غيبية بحيث جعلت الفرد هو مصدر أساس التشريع. واللبرالية تطورت بعد صراعات اجتماعية وسياسية وفكرية طويلة استغرقت قرونًا في أوروبا كانت دموية في بعض منها. وكان لليبرالية إرهاصات مهمة منها: تلاشي سلطة كنيسة روما في أواخر القرن الرابع عشر بانتشار ترجمات الأناجيل وظهور مرجعيات كنسية قومية مستقلة مما مهد لظهور حركات الإصلاح الديني؛ بزوغ عصر التنوير الذي نشر وطور ما سمي literae humanores»» أي الفكر الذي أستند لواقع الإنسان كأساس للتشريع، مقابل الفكر الديني literae divinae»» الذي رأى الرب صاحب كل المرجعيات. وقد أعاد الفكر الانسانوي نشر الفلسفة الإغريقية وربما الفلسفة الإسلامية ليقارع بها الفكر الكنسي؛ الاكتشافات الجغرافية، وتطور العلم التجريبي واختراع الأدوات العلمية كالاسطرلاب والمكروسكوب مما مهد لتطور الفلسفة الوضعية؛ اكتشاف الطباعة؛ الثورة الصناعية وانحسار الإقطاع.
واتخذت الكنيسة موقفاً معادياً من العلم والاكتشافات العلمية بل وأعدمت كثيراً من العلماء والأدباء والفلاسفة بتهمة الهرطة. ومع انتشار التنوير تقلصت سلطات الكنيسة فبدأ ما سمي بعصر الإصلاح، ووصل التنوير لما سمي بالعالم الجديد فكتب الدستور الأمريكي 1787م، وتلى ذلك ثورات وقلاقل ضد سلطة الأباطرة والكنيسة في أوربا ومنها الثورة الفرنسية 1799م التي وضعت أول ميثاق لحقوق الإنسان. ويقال إن المفكر الأمريكي «توماس باين» لعب دوراً كبيراً في صياغة هذا الميثاق. فالليبرالية والعلمانية تطورتا عبر قرون من الصراع الذي أخذ أحيانًا طابعًا دمويًا.
كلما انحسرت سلطة الكنيسة تقدم ما سمى بالفكر العلماني، وتوسع هامش الحريات الفردية. فالعلمانية والليبرالية تطورا معاً وكل منهما كان ملازمًا ضرورة للآخر. فالعلمانية بوجهها التنويري جعلت «الإنسان الفرد» ومصلحته وحريته في الدنيا محور للتشريع، واللبرالية كانت الترجمة السياسية لذلك حيث نظّرت للفكر السياسي الذي روج لقضية الحرية التامة للفرد على أنه الوضع الطبيعي للإنسان. لكن الحرية الكاملة - كما أدعى فلاسفة مثل «توماس هوبز» - قد تقود للفوضى الكاملة وحرب الإنسان الوحشية على أخية الإنسان، فعقب ذلك جدل فكري موسع وعميق حول تعريف هذه الحرية وطريقة تنظيمها، فظهرت نظريات العقد الاجتماعي بصورها المختلفة لتحديد طبيعة هذه الحرية ودور الحكومات وسلطتها مقابل حرية الفرد، وهذا جدل مستمر حتى يومنا هذا. أما الديمقراطية فتطلق على العملية السياسية التي تهدف لتنظيم حياة الفرد واحترام حقه في شكل الحكومة التي تحكمه.
فالليبرالية أوجدت العلمانية التي حدت من تدخل الدين في السياسة، وفصلت التشريع والقضاء عن الدين، وتبنت فصل السلطات من أجل حماية الفرد وحريته من التمييز بسبب تفكيره أو معتقدة. غير أن العلمانية ليست واحدة ولها أشكال كثيرة، فكثير من دساتير أوروبا العلمانية لها أصول مسيحية، والعلمانية في بريطانيا مثلاً حيث تمارس الكنيسة دوراً كبيراً في الحفاظ على العرش، وحيث لها مندوبون في مجلس اللوردات تختلف عن العلمانية في أمريكا وألمانيا. وما زالت التشريعات للحريات الشخصية تختلف من بلد علماني ليبرالي لآخر. والمسار العلماني الغربي ليس بالضرورة هو الأصلح للجميع، وتجاهل التطور الاجتماعي والسياسي لهذين المفهومين أدى إلى الضبابية والعمومية في فهمها. والطرق لاحترام حرية الفرد والحد من التمييز الديني أو الطائفي متعددة، وتنجح أكثر لو راعت خصوصية التطور الفكري والتركيبة الاجتماعية للمجتمع.
التعليقات