أحمد الهلالي

من القضايا المؤرقة في مجتمعنا سطحية الثقافة والتفكير، وهذه القضية في نظري هي (أم المشاكل)، فسطحية التفكير ـ غالبا ـ تؤدي إلى أمرين: السذاجة والانجرار وراء كل دعوة. والآخر: الارتياب الدائم من كل شيء سواء أكان (زينا أم شينا)، وهاتان السمتان نجدهما من أبرز السمات لشرائح اجتماعية واسعة، ولا أقصد بهذا الحديث متدني التعليم، بل ينسحب على أصحاب الشهادات الجامعية والعليا كذلك.

سطحية التفكير هي عوم الفكر على سطح الأشياء، والاقتناع بأقرب إجابة، فتموت الأسئلة في الذات المفكرة بالإجابة القريبة، ولا ذنب لهؤلاء، فهم نتاج حقبة طويلة من الركود الفكري والعلمي منذ (تهافت الفلاسفة)، لم يحمل مشعل التفكير فيها إلا المتدينون، والمتدين بطبيعته لديه إجابات جاهزة عن كل أمر من أمور الحياة، بعضها من الآثار الدينية، وهذا لا مراء فيه، لكن أغلبها من مقولات عقول سابقة فهمت الآثار الدينية على ذلك النحو.

وفي عصرنا عمدت الصحوة إلى إحياء تلك المقولات فألجمت بها كل العقول، ولم تدع للعقل حرية الانطلاق للبحث عما يعتمل فيه من أسئلة، سواء في الآثار الدينية أو في مشاهداته.

المتأمل للمشهد في بلادنا، سيجد أن (الحكمة) اختزلت في أفواه المشايخ (المطاوعة) فقط، وهذه الحكمة لا تقبل من غيرهم، وإن لم ترتد رداء دينيا فهي أيضا ليست مقبولة، ولو عدنا بالذاكرة إلى الحكمة فيما قبل الصحوة لوجدنا مقولات (ذهبية) لمشايخ ووجهاء وفرسان وشعراء، يتناقلها الرواة، تنبع من تجاربهم ومشاهداتهم الدقيقة للحياة والأحياء، تدل دلالة عميقة على أن أولئك الحكماء لم تخنق أفكارهم بالإجابات المقولبة الجاهزة.

اليوم، تصلنا على (جوالاتنا) آلاف الرسائل، جلها تحمل الحكم الصحوية من أقوال السلف، وإن جاءك مقطع فيديو لظاهرة كونية أو بشرية، فمحجوب عنك صوت الظاهرة بصوت مقرئ، أو شيخ يتحدث، أو منشد وهمهمات، في تأكيد على أننا أحطنا بكل شيء علما، ولا حاجة لأن يعمل عقلك، ويسأل ويبحث ويحلل ويستنتج، فالظاهرة أمامك والتفسير يرافقها صوتيا، ووظيفة عقلك التلقي فقط، ولعمري إن هذا سطّح تفكير الكثيرين، وغلف عقولهم حتى أحالهم سذجا بألقاب علمية رنانة، ينطلي عليهم كل أمر، ولا يمكن بحال أن ينتجوا حكمة نافعة، فاكتفوا بترديد أقوال الموتى.

بعض شبابنا الجميلين اليافعين على مواقع التواصل الاجتماعية يجابهون كل مفكر أيا كانت درجته العلمية أو منزلته، ولا عيب في المجابهة، بل في كيفيتها، فهم يتركون فكرته كلها، ويتجهون إلى شخصه (شتما واتهاما وتقريعا وتهديدا) وهؤلاء جمعوا بين السذاجة والارتياب، فعقولهم المغلفة لا تستطيع التعاطي مع الأفكار ومناقشتها، وارتيابهم يقودهم بدافع الخوف إلى التهجم والعنف اللفظي، وربما الجسدي لو كان الأمر متاحا.

كذلك اليوم نجد أبناءنا ومثقفينا الباحثين عن الحكمة لا يجدونها إلا في أقوال فلاسفة الغرب وأدبائه ومفكريه، ونفر قليل من حكماء العرب الموتى، تعج بها مواقعنا وجوالاتنا، وهذا يكفي لأن نعلم أن عقولنا لم تعد تنتج الحكمة، فقد أغرقتها الإجابات الجاهزة المقولبة، ولم تعد تستسيغ التفكير فيما وراء ذلك، ومجالسنا وقاعاتنا الدراسية واجتماعاتنا كلها (دعاء/ ومقولات سلفية/ وأذكار)، وإن خرجنا من بروتوكولاتها الصارمة إلى الاستراحات ومجالس (رفع الكلفة) فمعظم الحديث حول (الجنس/ ونكات المحششين) في ازدواجية مقيتة!

إني أناشد قيادتنا ووزارة تعليمنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية ومفكرينا بإحياء الحكمة، وفرض دراستها، فمظنّها الحقيقي في (الفلسفة) التي تعني محبة الحكمة، وغيابها عن جامعاتنا هو المسؤول عن جمودنا الفكري وموت السؤال في عقولنا، فالفلسفة أم العلوم، هي محرك النشاط العقلي، تنمي قدرات القراءة والفهم والتفكير والاستدلال الصحيح والحوار والتعبير، وتطور مهارات التركيب والتنظيم والتحليل والتصنيف والتعليل، ونحن بأمس الحاجة إلى مفكرين قبل أن نكون بحاجة إلى مهنيين، فالمفكر يفتح آفاقا تستوعب كل المهنيين، ولا حاجة لسَوق أدلة بين يدي مقالتي بعد قراءة تاريخ أوروبا وأسرار نهضتها المعتمدة كليا على الفلاسفة والمفكرين، كما كانت حضارتنا الإسلامية الغابرة.

صحيفة مكة