زهير الحارثي

الجنادرية تربط تكوين إنسانها الثقافي بتراثه، ولكن أظن أنه قد آن الأوان لتجديد ثوبها الثقافي والفكري بتطويرها كمعلم حضاري ومعرفي عبر إنشاء منتدى سنوي تُطرح فيه قضايا كبرى يناقشها علماء ومفكرون ومختصون..

المملكة اليوم في قلب الأحداث والاسم الأكثر حضوراً في وسائل الإعلام، وليس من قبيل المبالغة القول إن بلادنا تعيش لحظات استثنائية وتحولات غير مسبوقة، ويأتي مهرجان الجنادرية كمناسبة وطنية نعزز فيها الانتماء والولاء، وتجعلنا نتأمل بحق منجز المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي صنع تجربة وحدوية غير مسبوقة في عالمنا العربي، تجربة تجاوزت التصنيفات والمسميات، ورسمت لوحة بانورامية لوطن يؤمن بوحدته وأطيافه وتعايشه.

نحتفل غداً برعاية المليك بمهرجان الجنادرية الثاني والثلاثين لتمضي في إضاءة إشعاعها التراثي والمعرفي، وهو بمثابة انعكاس لتراكم مجتمعي في مساره التنموي والحضاري. مهرجان شعبي في بداياته يتحول إلى محفل ثقافي ومنبر فكري تجاوز بهما المحلية، مؤسسة عسكرية تقوم بواجبها الأمني لا تبرح أن تكون حاضرة بدورها الوطني والتثقيفي والتنويري عبر فتح الباب لضيوف المملكة في الولوج في حوارات فكرية، ناهيك عن اهتمامها بالجوانب التاريخية والتراثية.

المهرجان يحترم عقل الإنسان ويضع التاريخ في المكان الذي يليق به، ويزاوج بين وجهات النظر ويثري ساحات، جالباً كل الأطياف والأصوات والرؤى دون تحيز لهذا الطرف أو ذاك، كونه مشروعاً ثقافياً يسعى للارتقاء بالمجتمع علماً ووعياً وذائقة. عندما تتأمل أسماء الضيوف الزائرين، تجدهم يأتون من مشارب وأطياف ومدارس متنوعة، تشعر أن المملكة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتفتح قلبها للجميع، ويصل الاهتمام خلال تواجدهم بأن يستقبلهم خادم الحرمين ويرحب بهم ويصغي إلى ما يطرحونه من أفكار ورؤى.

يتزامن هذا مع ما تعيشه بلادنا من لحظات استثنائية وأجواء تحول غير مسبوقة تهدف لإصلاح جذري؛ أي إنتاج وعي ثقافي وتنموي في المنظومة الاجتماعية. الدور الذي يقوم به ولي العهد الأمير محمد بمثابة بصمة تاريخية في جبين هذا الوطن بدليل قرار التحول كقرار استراتيجي ومفصلي، لأنه يعني السيرورة كدولة وتثبيت سلطة الحكم وتعبيد الطريق للأجيال القادمة. هذه الرزمة من القرارات خطوة جريئة وطموحة تجعل بلادنا دولة لا تعتمد على مورد واحد، بل ويحولها إلى دولة مدنية حضارية. روح جديدة نلمسها وإرادة جادة، والمملكة أمامها تحديات سواء في الداخل أو الخارج، طموح الجميع في تحويل المملكة إلى دولة مدنية عصرية متفاعلة مع ما حولها.

هذا بالطبع يتطلب مسلكيات ضرورية لا بد من اجتيازها للوصول إلى شاطئ الأمان، وملامحها واضحة في الدخول لمرحلة تنموية عناصرها الإنسان والأمن والرفاهية. لا نستطيع قياس مستوى تقدم شعب من الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في تركيبته المجتمعية، لأن مكانة المجتمع تتضح في قدرته على فهم قوانين الحياة. وفي هذا السياق تجد الجنادرية تربط تكوين إنسانها الثقافي بتراثه، ولكن أظن أنه قد آن الأوان لتجديد ثوب الجنادرية الثقافي والفكري بتطويرها كمعلم حضاري ومعرفي عبر إنشاء منتدى سنوي تُطرح فيه قضايا كبرى يناقشها علماء ومفكرون ومختصون.

في العالم تجد جهوداً لمؤسسات فكرية وثقافية وحقوقية، هدفها بلورة أفكار ورؤى للقضايا المختلف عليها لينتج عنها تواصلاً إنسانياً حضارياً. نتمنى أن يقوم هذا المهرجان كما ذكرنا من قبل بمحاولـة مقاربة قـراءة عقلانية للـواقـع الجـديـد للمنطقـة، وتلمس ملامـح المسـتقبل آخذاً علـى عاتـقه الحياديـة مستهدفاً الإنسـان مـن أجـل بنـاء مسـتقبل أفضل للمجتمعـات عبـر نشـر الفكـر والمعـرفـة. بإمكان الجنادرية أن تقوم بهذا الدور لأن لديها مقومات تنطلق من رصيد بلادنا التاريخي الغني بالتراث والثقافة الأصيلة ومن سمات مجتمع له رسالة روحانية ومن تجربة ثرية لدولة تدعو للتعايش وحوار الحضارات والثقافات والأديان، ناهيك عن ثقلها الدولي وعمقها الإسلامي والعروبي، فضلاً عن كونها جزءاً من هذا العالم الذي لا تستطيع الانفصام عنه، كونها لا ترضى بمقعد المتفرج والعالم من حولها يتغير.

في ظل ما تعيشه بلادنا من انفتاح وتفاعلات، بمقدور المهرجان بث رسالته الحضارية من تسامح وتعايش وإغناء التجارب الثقافية والتواصل مع الشعوب من خلال القواسم المشتركة، وهي مهمة ليست يسيرة ولكنها غير مستحيلة.