محمد المختار الفال

 ورد في مقابلة الأمير محمد بن سلمان مع الصحافي في مجلة «ذا أتلاتيك» جيفري غولدبيرغ، إشارة إلى أن السعودية عملت مع كل من تستطيع أن تستخدمه لمحاربة الشيوعية، وأنها نسقت مع الأصدقاء والحلفاء في هذا الشأن.

هذه الإشارة التقطتها أطراف متباينة، ونظر إليها كل فريق من زاويته وما يرغب في تحميلها من معان ودلالات وتأثير، فالذين يريدون أن يحملوا السعودية وزر التشدد والتطرف وما تولد عنهما من إرهاب وفتن قالوا: «من فمك أدينك»، ها هو الرجل الثاني في الدولة السعودية يعترف بأن بلاده كانت وراء انتشار التشدد وأنها كانت تتحرك «بأوامر» خارجية، وهم بهذا القول يمعنون في ذم هذا البلد، حين يجعلونه مسؤولا عن نشر «مذهب التشدد» في العالم، وهو لا يفعل ذلك عن قناعة، بل يتحرك بتوجيه غيره، هذه التهمة القبيحة المرذولة ظالمة للحقيقة قبل أن تكون متجنية على السعودية وقيادتها وعلمائها ومؤسساتها السياسية والدينية والثقافية، فهي لا تكتفي بتهمة نشر التشدد ومنتجاته، الإرهاب، بل تضيف إليها «فقدان الإرادة» والتبعية، ما يعني أن الصورة الذهنية المحفورة في وعي المسلمين عن تاريخ هذا البلد وقيادته كانت مزيفة ومخادعة.

هذا الفريق من الأعداء الحقيقيين لا طائل من محاورتهم ومناقشتهم، على رغم ضرورة الرد على أكاذيبهم وأضاليلهم، فلديهم مذكرة معروفة تستند إلى مشروع «تجريم السعودية»، وإلصاق كل شائه ومنحرف من المواقف والتصرفات بها، من خلال تتبع الإشارات واللقطات والكلمات المبتورة والجمل المقطوعة من سياقها، لتوظيفها لهذا الغرض الفاسد الذي يضعف واقع المسلمين أكثر مما يسعى إلى خدمة الحقيقة.

وهناك فريق آخر التقط الإشارة الواردة في المقابلة ليستنتج منها أن الانفتاح الذي تمر به السعودية قد يفهم منه «تصفية» حسابات مع تاريخ ممتد عشرات السنين، وإنه بداية لطريق هدفه «القطيعة» مع ثقافة وتدين هذا البلد وأهله، وما فيه من معنى التخلي عن المسؤولية الدينية التي يوجبها شرف رعاية وخدمة الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهذا الفريق، على رغم تعدد أطيافه، وربما اختلاف درجة قلقه، ينطلق من منبع الخوف أو بدافع الحرص على مكتسبات ماضية لا يريد أن يفرط فيها، ليعطي خصوم هذا البلد الكبير جائزة الانتصار على ممانعته ورفضه التخلي عن قناعاته طوال عقود من الزمن. وأعتقد أن هذا الفريق أو هذا «التيار» من المخلصين لوطنهم وقيادتهم يستحق المناقشة والمحاورة بما يمكّنه من إبداء وجهات نظره وإزالة أسباب هواجسه ومصدر خوفه، وبما يؤدي إلى جلاء الصورة الحقيقية، بقدر ما تستطيعه المناقشة الهادئة الهادفة إلى كشف الغموض والانتهاء إلى ما يحسن السكوت عليه أو التوقف عنده. وفي هذا السياق، أرى أن مما يساعد في الفهم والوصول إلى أرضية مشتركة، تحديد إطار المناقشة وتحرير مسائل الاختلاف، ومن ذلك أن يوضع النقاش حول «الانفتاح الاجتماعي»، الذي تتجه إليه المملكة، في إطار ما يحتمله تعدد الرأي الفقهي وأثر قرار الحاكم (ولي الأمر) في ترجيح الرأي في مسائل الاختلاف. وفي البداية لا بد من التقرير أنني لست فقيها ولا أقتحم البحث الفقهي الدقيق في هذا الموضوع، وبالتالي فإن النقطة «المركزية» التي تدور حولها هذه المقالة هي أهمية تحديد إطار اختلاف وجهات النظر، وحق كل طرف في مناقشة حجة المختلف من دون أن يعتبر رأيه هو الصواب كله ورأي غيره هو الخطأ كله.

ومن الأسئلة المشروع في هذا الإطار: هل للحاكم (ولي الأمر) أن يختار رأيا فقهيا معتبرا لدى علماء المذاهب المعترف بها، في الماضي والحاضر، وإن خالفه علماء معتبرون في الماضي والحاضر، ليبني عليه مصالح الدولة وعلاقاتها، وينظم حياة المجتمع الداخلية والخارجية؟ وهل قراره يعد «مرجحاً» بما يرفع الخلاف؟ إذا انطلق الحوار من هذه القاعدة أو المسلمة، من دون الدخول في التفاصيل، فإن تحديد مسائل البحث يعين على فهم طبيعتها وتحديد المواقف منها.

وفي موضوعنا، خطوات التحديث في السعودية، نجد مسائل أساسية مطروحة على المجتمع، منها: قيادة المرأة السيارة، وتمكين المرأة من كامل أهليتها القانونية، واستقلال ذمتها المالية، وفتح المجال أمامها لدخول كل حقول الإنتاج والعمل من دون وصاية من أحد، ومظاهر الترفيه ومؤسساته المعلن قيامها (المسرح، والحفلات الغنائية، والسينما).

هذه القضايا أو المسائل المستجد وجودها في حياة الناس كانت في السابق من «المحظورات» التي يعتقد كثيرون أنها من المحرمات، وأن من كان يثيرها في وسائل الإعلام ينعت بسوء القصد وفساد الطوية ومن الكارهين للدين والتدين، فإذا هي مباحة، بين عشية وضحاها، ما أحدث «هزة» في قناعات كثيرين من هذا الفريق، وأثارت تساؤلات، من قبيل: إذا كانت هذه المسائل محرمة في الأصل، فكيف أصبحت حلالا؟ وإذا لم تكن حراما شرعا، وإنما منعت تنظيما واجتهادا من العلماء وأهل السياسة، فلماذا لا يقال ذلك صراحة كي لا يشكك أحد في صلاحية أحكام الشرع ولا يفقد الناس ثقتهم بما يقوله أهل العلم وما يرشدون إليه؟

أعتقد أن معالجة هذه المسائل المستجدة في مسيرة التحول الاجتماعي والحراك الثقافي، الذي تقوده الدولة، في وسائل الإعلام ومناقشتها بروح العلم وأسلوب الاعتدال والحرص على الموضوعية وتأكيد الرغبة في الاقتراب من الحقيقة لإنفاذ مقتضى الشرع وخدمة المصلحة العامة، لها أهمية كبرى في وضع القضية في حجمها الطبيعي وتقليل مساحة سوء الفهم، الذي يقود إلى التفسير الخاطئ، إلى جانب أهمية ذلك «تربويا» وثقافيا، إذ يساعد في زيادة اطمئنان الشباب والذين لا يتصلون بعلوم الشريعة، وترسيخ قناعتهم بأوامر دينهم وشريعته، ولا يعطي الانطباع أن المجتمع «يتلاعب» بالأحكام، يطوعها كما يشاء وقت ما يشاء.

من المصلحة العامة المشتركة بين أطياف المجتمع ومؤسساته ألا يتخلق في الوعي العام «ارتباك» يعطي رسائل سلبية، يفهم منها «ميوعة» أحكام الشريعة وخضوعها للأهواء.