لم يعد المسرح في الخليج فقيراً جمالياً، أو يعيش في ترف على هامش المجتمع، بعيداً من قضاياه الراهنة والملحة. الدورة الثالثة من مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، التي دشنها حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القسمي واختتمت فعالياتها قبل أيام، بقدر ما رسخت من أساسات هذا المهرجان وحولته مناسبة فريدة للمسرحيين الخليجيين، تزداد أهمية العام تلو الآخر، تمكنهم من الالتقاء وتداول هموهم ومناقشة التحديات التي تواجههم، بالقدر نفسه دفعتهم إلى تحدي أنفسهم على صعيد الاشتغال المسرحي، وتجويد العمل على عناصره المختلفة، فحملت الدورة الجديدة وعوداً كثيرة إذا ما استمر المهرجان فسيبلغ المسرح في الخليج شأواً بعيداً في التطور، وارتياد آفاق مسرحية جديدة.


شاهد جمهور المسرح عروضاً من عمان والسعودية والبحرين والإمارات والكويت، وكشفت هذه العروض عن مقدرات هائلة لدى المسرحي الخليجي، وشغف بأبي الفنون وتطلع إلى منافسة العروض العربية وحتى العالمية. كل ذلك جاء من خلال سينوغرافيا وإضاءة وديكور وماكياج وأداء مركب للممثل ونص عميق وذكي.

تنافس على جوائز المهرجان خمسة عروض مسرحية، وهي: «مدق الحناء» لفرقة مزون من عمان، و«حبوس» لفرقة الوطن من السعودية، و«نوح العين» لفرقة آوال من البحرين، و«مجاريح» لفرقة مسرح الشارقة الوطني، و«الصبخة» لفرقة مسرح الخليج العربي من الكويت. وضمت لجنة التحكيم المخرج عصام علي السيد (مصر) رئيساً للجنة، والفنان وليد الزعابي (الإمارات) والمخرج رياض موسى سكران (العراق) والكاتبة المسرحية ليلى بن عائشة (الجزائر) والباحث والناقد المسرحي محمد لعزيز(المغرب). وجاءت النتائج على النحوالتالي: جائزة أفضل تأليف: إسماعيل عبدالله، عن مسرحية «مجاريح». جائزة أفضل إخراج: عبدالله العابر، عن مسرحية «الصبخة». جائزة أفضل عرض مسرحي: مسرحية: «مدق الحناء».

&

أكد المهرجان أهمية التراث، فسعت العروض إلى توظيفه، ليس فقط هذا، إنما مجادلة هذا التراث أيضاً، وإعادة اكتشافه وطرح أسئلة الحاضر عليه. ولقد كان السؤال الأبرز المطروح طوال أيام المهرجان، خلال العروض أو على هامش الملتقيات الفكرية والمسامرات والندوات التطبيقية، ليس: لماذا نوظف التراث؟ إنما: كيف نوظف التراث؟ سؤال الكيفية يختصر هموم المسرحي الخليجي ويشير إلى مستوى وعيه، وإلى اللحظة التي يتوقف عندها اليوم. ذلك أن سؤال الكيفية، هو سؤال الخطاب الجمالي وما ينم عن فلسفة وقدرة على الحوار، على صعيد الشكل، ليس مع التراث إنما أيضاً مع العرض المسرحي في شكل عام، عربياً كان أو عالمياً. في النقاشات والندوات بدا المسرحي الخليجي واعياً بصورة كافية، بمأزقه كمسرحي خليجي وعربي، يرى اشتغاله مرتهناً بالمؤسسة الرسمية ودعمها، وبالمشكلات التي تكتنف المسرح في شكل عام، من ناحية الإكراهات الاجتماعية ومساحة الحرية. وظهر ملماً بالمستجدات التي تطرأ على فن المسرح في العالم كله، من أفكار وتيارات وتقليعات تأخذ المسرح إلى مناطق جديدة.

واللافت أن بعض مواضيع العروض بدت تقليدية، لكن فريق العمل عمد إلى مجادلتها وإعادة تركيبها من جديد، فظهرت جديدة بما انطوت عليه من حمولة فكرية، ومساءلة للمسكوت عنه. جادلت بعض العرض قضايا العبودية والتحرر والحبوس والعلاقات المحرمة والطغيان. وهو أمر يجعل المسرح الخليجي يتصدى لمواضيع إشكالية وشائكة بمقدار كبير من الجرأة والمغامرة.

من المرجعي إلى الجمالي

ينتقل العرض الخليجي في هذه الدورة من البحث في المرجعي وكل ما هو خارج النص المسرحي، إلى الجانب الأكثر حيوية والذي يمس صميم المسرح، وهو العرض الفرجوي، ومجادلته جمالياً. هذا الانتقال الذي أخذ يعلي من الجوانب الجمالية على حساب النص، الذي تراجع تماماً، بل إن المخرج كثيراً ما يبتكر نصه الخاص انطلاقاً من النص الأصلي، ليستجيب مع روح المغامرة والذهاب بعيداً في المقاربة «الفرجوية»، هذا الانتقال تحول إلى سمة ميزت عدداً من العروض، وطغت على نقاشات المسرحيين المهمومين بتطوير المسرح في الخليج، مثل الدكتور يوسف الحمدان والدكتور عبدالله يوسف والدكتور سامي الجمعان والكاتب المسرحي فهد رده الحارثي وسواهم.

ظهر الفضاء في هذه العروض بشكل مدروس، حاملاً رؤية المخرج والمؤلف للمسرح وللوجود، سواء كان الفضاء متقشفاً أم مؤثثاً في شكل كامل. في هذا الفضاء يمكن العثور على تعبير عميق لأكثر مشكلات الذات الإنسانية في لحظتها الراهنة، قلقها، انحطاطها، شعورها باللاجدوى، عجزها أمام مختلف السلطات، وارتباكها إزاء الأقدار التي رسمت مصائرها. لذلك لا غرابة إن صفق الحضور طويلاً وهم يقفون لعرض من العروض التي شهدها المهرجان، ذلك أن الحضور كان أمام عرض حقيقي، على مستوى الفضاء وما يمثله من شكل مادي، والذات التي تتحرك في هذا الفضاء وتخترقه. مكن الممثل الخليجي الحضور من الحصول على فرجة فارهة، وفّرها طغيان للبصري ولحركات الجسد وللتركيب في الرؤية الإخراجية القائمة على نص يحفل بإمكانات كثيرة.

حملت العروض من الإشارات والعلامات والحركات والسرد والفرجوي واللعبوي، ما جعلها تضاهي عروضاً دولية. لعب الممثل الخليجي كثيراً، داخل الفضاء المسرحي، فنجم عن هذا اللعب البعد الجمالي الذي هو غاية كل عرض. ومن الدلالة والمعرفة في العرض، التي يتقصدها المخرج وقبله المؤلف، إلى «المتعوي» و«الفرجوي» لذات المتعة والفرجة، من خلال الكوريغرافيا التي جاءت في مستويات مبهرة، إذ دل التعبير الجسدي الذي جسده الممثل الخليجي على قدرة في إنتاج الجمال على الخشبة، الجمال من أجل المتعة، متعة العين والروح معاً.

المسرح الخليجي والتراث

ولم يقتصر مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي على العروض المسرحية فقط، بل شمل ندوات وجلسات نقاش وورش عمل، إضافة إلى الملتقى الفكري، الذي يأتي هذا العام بعنوان «المسرح الخليجي والموروث الشعبي»، ويشارك فيه مسرحيون من جميع الدول الخليجية. في هذا الملتقى دعا الباحث والفنان عبدالله يوسف إلى الالتفات إلى مكونات الموروث الشعبي، وإعمال البصر والبصيرة، لانتقاء ما يغذي ويعبئ مخيلة المربع المبدع للعرض المسرحي (المخرج، المؤلف، السينوغرافي، والمتلقي) بالكثير من المدهش الذي يحفل به المنجز الحياتي الخليجي، في رباعية مكوناته التاريخية ونسيجه الاجتماعي والبحري والصحراوي والزراعي والمدني». وتطرق عبدالله يوسف إلى وعي رواد المسرح الخليجي لأهمية المسرح ودوره في المجتمع، ما شكل دافعاً لتوظيف ظواهر المجتمع وأشكال تراثه في منجزهم المسرحي، فقدموا أعمالاً مهمة أعطت المسرح الخليجي بصمة وهوية خاصة.

أما الدكتور سامي الجمعان فركز على أهمية توظيف الغناء الشعبي في المسرح، وأيضاً دراسة هذا التوظيف، مشيراً إلى أن هذا الجانب لم يلتفت إليه أحد. وأن وعي المخرجين قاصر في بلوغ الدلالة البعيدة للأغنية، وعن استغلالها درامياً وأدائياً، فتأتي الأغنية كفاصل بين مشاهد ولا تظهر طاقتها الكلية. في حين قال الدكتور يوسف الحمدان إن ارتباط التراث بالمسرح الخليجي «بقي أسيراً لفكرة استخدام الموروث الشعبي بشكل بسيط وميكانيكي، لا يرقى إلى الرؤية الجمالية المنشودة من ذلك الاستخدام، متطرقاً إلى طغيان الموروث البحري على غالبية تجارب استحضار التراث في العرض المسرحي. وتوقف عند عدد من الأسماء التي يرى أنها أسهمت في تشكيل رؤية جديدة للموروث الشعبي الخليجي الأدائي، وحفزت الحركة المسرحية بدماء جديدة. وذكر الفنان عبدالله سويد أن توظيف التراث في المسرح لم ينجز بالكفاية اللازمة، وأن معظم المشتغلين في المجال المسرحي لم يركزوا بعمق في دراسات الموروثات الشعبية. من جانبها، قالت الدكتورة سكينة مراد إن بعض المسرحيين اتخذوا التراث جزءاً من العمل الفني في بعض المسرحيات وليس مادة أساسية في الحدث الرئيسي في النص، وبعضهم الآخر اعتمده كمصدر أساسي للنص، كما وظف بعضه الآخر الموروث الشعبي بنقله كما هو في الواقع دون أن يضفي عليه شيئاً من إبداعه، وهناك تجارب عالجت الموروث معالجة فنية معاصرة.