لن توقف العملية الإسرائيلية التي استهدفت مفاعل "نطنز" البرنامج النووي الإيراني، لكنّها ستسمح لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تلمس، بلا أي شك معقول، أنّها تتعامل مع شرق أوسط لا يشبه ذاك الذي كان عليه في زمن باراك أوباما.

حينذاك، كان تجاهل إسرائيل ودول الخليج العربي لإبرام الاتفاق النووي مع إيران ممكناً، لأنّ الواقع الجيو سياسي في الشرق الأوسط كان مؤاتياً، أمّا حالياً فكل شيء تغيّر، فولاية دونالد ترامب، كانت فسحة استغلتها الدول المناهضة لإيران، من أجل توفير الأدوات التي تحتاج إليها، حتى تتمكّن من مواجهة "السطوة الأميركية"، في حال ذهبت في اتجاه يتعارض ومصالحها.

وعليه، يمكن أن تذهب واشنطن الى جنيف تمهيداً لعودتها الى الاتفاق النووي مع إيران، ولكنّها أعجز من أن تُخضع الدول الرافضة لهذا الاتفاق، لإرادتها.

إنّ مفاوضات جنيف الجديدة، بدل أن تفرض "هدنة" في المواجهة بين إيران والدول المناهضة لها، سعّرتها حتى تكاد، في حال حصل أيّ خلل في الحساب، أن تتسبّب بحرب.

طهران نفسها، مستلهمة من بازاراتها قاعدة تجارية تقوم على "رفض دفع ثمن الحصان نفسه مرتين"، سهّلت على الدول المناهضة لها، الإنقضاض على إدارة بايدن "المسالمة"، بحيث أظهرت أنّ هذه الإدارة هي التي تلهث وراء العودة الى الاتفاق، وكأنّ الشعب الأميركي هو الذي يعاني الجوع والحرمان والفقر والموت وليس الشعب الإيراني وكل شعب جرى ربطه به، بفضل ميليشيات يستتبعها "الحرس الثوري الإيراني" لأجندته.

ولم تنجح إدارة بايدن، في تهدئة مخاوف دول الخليج و"حليفتها" إسرائيل، من خلال تأكيدها أنّها ستضع على الطاولة كل الملفات الإيرانية المثيرة للغضب، بدءاً ببرنامج الصواريخ البالستية وصولاً الى أدوات إيران المزعزعة للإستقرار في المنطقة.

إنّ فشل إدارة بايدن في طمأنة خصوم إيران لا تتصل فقط بالتصعيد الكلامي الإيراني، على مسافة شهرين من انتخاباتها الرئاسية، بل تتمركز حول تصعيد "الحوثيين" لأعمالهم العدائية ضد الملكة العربية السعودية ورفع منسوب النفوذ الإيراني في سوريا وعرقلة قيام حكومة "إنقاذية" في لبنان، وتصعيد "التوتّر" المليشياوي في العراق.

ولم تقدّم إدارة بايدن، حتى تاريخه، أيّ دليل على قدرتها على ضمان من تعتبرهم حلفاء، ففي آسيا، يقتل هؤلاء في ميانمار، وفي روسيا، يقبع آلسكي نافالني في سجنه، وفي أوكرانيا، بعدما "بلعت" موسكو شبه جزيرة القرم، تنتظر الوحدات العسكرية الروسية "ساعة الصفر" للإنقاض على شرق البلاد، وبعدما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قاتلاً لا بد من مساءلته" أصبح، في أقلّ من شهر واحد، "مفاوضاً لا بد من التواصل معه".

ولا تقيم الدول المناهضة لإيران كبير اعتبار للاتحاد الأوروبي ودوله، فهي، "بلعت" إهانات إيران المتكررة لها، سواء على مستوى الاتفاق النووي أو على مستوى الأعمال الأمنية على أراضيها، وارتضت أن تلعب دور الوسيط بين إيران، من جهة وبين الولايات المتحدة الأميركية، من جهة أخرى.

ويبدو لدول الشرق الأوسط هذه أنّ همّ الإتحاد الأوروبي هو إعادة إحياء مصالحها الاقتصادية والتجارية مع إيران، وليس أي عنوان من عناوين السلم العالمي والإستقرار الإقليمي.

وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تخوض "صراع نفوذ" مع روسيا و"صراع الريادة" مع الصين، فإنّ الدول المناهضة لإيران، خصوصاً بعدما قرّبتها "اتفاقيات إبراهيم"، تقيم علاقات طبيعية جداً مع موسكو وبكين اللتين لا تتوقفان عن جذبها، وتالياً، فإنّ مصالح هذه الدول الإستراتيجية مع واشنطن، لا تتأثّر بقدرتها على حمايتها من قوة عالمية، إنّما بالحيلولة دون مساعدة إيران للتحوّل الى قوة إقليمية طاغية.

ولهذا، فإنّ ما بعد "نطنز" لن يكون كما قبله على الإطلاق، فإيران تعرف أنّ المواجهة لم تعد مجرد شعار انتخابي، بل أصبحت واقعاً، عليها التعامل معه ببراغماتية، وواشنطن باتت تعي أكثر القدرات التي تسمح لحلفائها بحماية مصالحهم بالاستقلالية عنها.

من دون شك، إنّ الدول المناهضة لإيران في الشرق الأوسط تطمح إلى إعادة إيران الى حدودها، وهذا ما تتقاسمه، في النيات المعلنة، مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ولكن واشنطن وبعدها بروكسل أمام تحدي المصداقية الذي يبدأ، بإظهار ما يمكن أن تفعله في الملفات "السهلة" مثل لبنان، فمن يعجز عن تذليل عقبات تحول دون تشكيل حكومة قادرة على الحد من انهيار بلد، فلن يستطيع أن يضمن منع إيران من مواصلة استراتيجية الهيمنة.