من هم جنود الاستقلال المعنيون هنا؟؟
هم هذا الركب الطويل وهم كوكبة من أبناء البحرين لا نستطيع تعدادها، ولكنها ركب يمتد منذ النشأة الأولى والمبكرة لهذا الوطن، منذ الأجداد والآباء الذين تضرب جذورهم في أعماق البحرين، وتمتد بذات القوة والأصالة إلى اليوم وبذات الصفات من إنكار الذات وعشق الوطن، وتجسد عشقهم وحبهم الكبير للوطن في البذل والعطاء والبناء.
هؤلاء من جيل الأجداد والآباء الأوائل أدركوا بفطرتهم ووعي انتمائهم للأرض أن مسؤوليتهم التاريخية هي بناء البحرين وتطويرها وتحديثها والارتقاء بها لوضعها على سكة الدولة الحديثة.
والتحمت وانصهرت طموحاتهم وتطلعاتهم مع طموحات وتطلعات وأهداف قياداتهم من آل خليفة الكرام فساروا معا وصفا واحدا لبناء البحرين بوصفها دولة حديثة وفق مفهوم وصفات الدولة آنذاك، فكانوا بحق طليعة جنود الاستقلال منذ وقت مبكر حين بدأت البحرين بفيض عملهم الدؤوب وعطائهم تكتسب ملامح وصفات الدولة الحديثة وقتها قبل أقرانها ومحيطها.
طليعة جنود الاستقلال من أبناء البحرين جسدوا التحامهم بأرضهم ووطنهم ببناء البنية التحتية الأولى في المنطقة لتكون القاعدة التي قامت عليها المدراس والإدارات الحكومية والمستشفيات والمرافق العامة التي رسمت خريطة الدولة البحرينية الحديثة منذ عقود طويلة مضت.
وجنود الاستقلال الأوائل من الأجداد والآباء تمسكوا بأرضهم وترابهم بشكل أصبح مضرب الأمثال، فلم يغادروها برغم شحة مواردها بل رفضوا إغراءات العطاء من هنا أو هناك، وظلوا يحفرون الصخر والبحر بمواويل عشق الوطن.
وقد قال قائلهم «ما أطلع من حليوة» ويعني البحرين الحلوة، التي عرفت في التعبير الشعبي بذلك الاسم بين رجالات الماضي، وفي هذا التعبير الجميل دلالات على التمسك بالوطن فهو الأجمل وهو الأحلى في المعنى للانتماء والوجود.
«ما أظعن من البحرين»
تلك مقولتهم وذلك قولهم.. الطليعة الأولى من الآباء والاجداد من جنود الاستفلال الأوائل الذين رسخوا اسما لامعا ومتميزا للبحرين.
«ما أظعن من بلادي»، وظعن تعني رحل في العربية الفصحى وهي الرديف اللغوي للرحيل من المكان، و«ما أظعن من بلادي» ترددت وتكررت لعقود طويلة على ألسنة ذلك الجيل الذي رفض فكرة الهجرة من بلاده مهما كانت الظروف.
فالبحريني له حكاية عشق أبدية بالمكان لم يستوعبها ولم يفهمها من حاول دفعه وإغراءه بالهجرة لأهداف خاصة به، وسر أسرار البحريني منذ القدم حتى اليوم هم تمسكه والتصاقه بأرضه بمكانه ويستحيل اجتثاثه منه.
المكان هو ذاكرة البحريني ولنتخيل إنسانا بلا ذاكرة، هكذا هو البحريني، هذا ما قال لنا الآباء نقلا عن أجدادهم، وهكذا امتد عشق المكان وعشق الفريج وعشق الوطن في شرايين أهل الديرة جيلا عبر جيل، وذلك سر أسرارهم الذي يجعلهم يتشبثون بأرضهم رغم شح مواردها الطبيعية وقسوة معيشتهم آنذاك.
منذ زمن مضى بدأوا بإرسال رسلهم إلى البحرين إلى الأجداد والآباء وبمعسول الوعود وبكلام بلا عهود وبإغراءات برغد العيش هناك عندهم حاولوا تمرير مشروع التهجير الذي كلفوهم به لاستهداف ـسماء منتقاة وعائلات معينة.
فاستشعر الآباء بدبيب شيء غامض غير مطمئن في كلامهم وبأن ثمة شيء أكبر مخبوء خلف اللسان والكلام، فسرعان ما وقف أحد الآباء وبكلام مؤدب تقتضيه آداب الضيافة لكن بعبارة حاسمة قاطعة قال لهم «مجالسنا تعذركم»، أي مجالسنا ترفض استقبالكم بعد اليوم.
وبدأ الكبار من الأجداد والآباء يحذرون الأبناء والأحفاد من الانزلاق إلى الشرك المنصوب لهم، فأدرك الجميع اللعبة وقال كبار السن لهم «اللي في الفخ أكبر من العصفور»، ففهموا الموضوع بدقة، وخابت فكرة التهجير والإغراء بالهجرة لتقطيع الجذور التي سعوا إليها بخبثهم الخبيث.
ومازالت البحرين تروي وتسرد على لسان آبائها وأجدادها من جنود الاستقلال حكايات وحكايات عن محاولات الإغراء بالهجرة التي حاولوا معهم في كل حي وفريج من أحياء البحرين القديمة، وفي كل حكاية دلالة وقيمة رائعة من القيم التي غرسها الأجداد والآباء في وجدان الأبناء فلازمتهم وتوارثوها كابرا عن كابر.
أفلا يستحق ذلك الجيل الكبير لقب جنود الاستقلال الأوائل الذين انصهروا بتراب الوطن وأدركوا ببالغ الحكمة الهدف المدسوس لهم ولبلادهم فقاوموه ورفضوه وأفشلوه، حفاظا على أصالة بلادهم واستقرار مواطنهم فوق أرضها واستقلاله عن وصاية الأوصياء القادمين إليه بمشروع مشؤوم وملغوم لتفتيت النسيج وتمزيق الأواصر وتقطيع الجذور واجتثاث الأصول.
مشروع التهجير وعقدة الأصول
لم ينجح وفشل مشروع الإغراء بالتهجير مع الوعود والعطايا، فقد رفضه الآباء والأجداد معظمهم بل مجملهم، لأن طلائع جنود الاستقلال كما سميناهم لم يكونوا يعانون من عقدة الأصول وعقدة الهوية، بل كان رفضهم للهجرة بكل مغرياتها هو نتيجة تمسكهم بهويتهم وتواصلهم مع أصولهم وجذورهم، ويبدوا واضحا أن صاحب مشروع التهجير هو من يعاني بقوة من عقدة الهوية وعقدة الأصول فسعى جاهدا لتعويضها واختلاق هوية تناسبه وتخفف من عقدة هويته، بانتقاء واختيار عائلات بحرينية بعينها والعمل على تهجيرها وتحويلها بقربه لتكون غطاء لعقدة الهوية التي يعانيها وتشكل أحد همومه الكبرى.
واللجوء إلى تصنيع هوية يذهب به إلى تصنيع تاريخ ينسبه له من خلال انتقاء واختيار عائلات بعينها بإغراء الهجرة إلى مكانه، لكنه في المقابل سيفشل مع الأجداد ومن بعدهم الآباء والأبناء الذين التحموا بأرضهم ولا يفكرون ولا يريدون ولا يبحثون لها عن بديل، وانخرطوا كما أشرنا برغم بساطة عيشهم وشح زمانهم في البناء والعمل والعطاء فأسسوا قواعد الدولة البحرينية الحديثة التي استطاعت بتلك القواعد أن تشيد صروحا ثابتة راسخة بتضحيات جنود الاستقلال.
وتبخرت الوعود
نفر قليل لا يذكر أغرته الوعود وصدق الكلام غير الملتزم بالعهود، فترك وطنه طمعا في إغراءات كمنت له في فخ مشروع التهجير حتى وقع في شباكه مدفوعا بأضغاث أحلام.
وفي المسافة بين الخيالات وضبابية أحلام ملأت وجدانه وبين الواقع الذي عاشه هناك اصطدم بالحقيقة صدمة قاسية حين اكتشف حجم المكر الذي تعرض له وصدق معسول الكلام.
فإذا به «مواطن درجة ثانية»، أي مواطن اسقطت عنه حقوق في المواطنة وانتقص منها ومنع عن ممارستها، وهي حقوق أساسية لا تكتمل شروط المواطنة بدونها.
ثم إن سلب هذه الحقوق تمتد آثارها على أبنائه من بعده حين يسكنهم شعور موجع بوصفهم «مواطنين مع وقف التنفيذ»، أي أنهم «مواطنون درجة ثانية»، وهو تصنيف مؤلم وسيئ في انعكاساته على الفرد وعلى جماعته.
وانكسرت داخلهم أشياء كثيرة، ولعلهم استذكروا متأخرين وبعد فوات الأوان الحكمة القديمة «الوطن كنز لا تعادله كنوز الأرض».
جنود الاستقلال شهود التاريخ وذاكرة الوطن
بتمسكهم وانصهارهم بتراب وطنهم أصبحوا شهودا على التاريخ العميق والمتجذر، وفي سردياتهم وحكاياتهم ومروياتهم شهادات حية نابضة على ذلك الماضي الذي حرثوا أرضه بجهدهم وعرقهم وعملهم فاخترقوا البحر والبر نشاطا وعملا لم يعرف الكلل ولا الملل، وحملوا بين جوانحهم ذاكرة وطن يزهو بأبنائه.
صحيح أنهم لم يكتبوا ولم يوثقوا تلك الذاكرة لكنهم نقلوها عبر السرد والمرويات لأبنائهم، وهكذا ظلت أرشيفا محفوظا في ذاكرة الأجيال بملاحم تضحيات عن كل المستويات وبملاحم إرادة وعمل وأمل وعشق للأرض والوطن.
سردوها ومازالوا يسردونها مزهوين بها لا مغرورين أو مغترين بسردها، وهم بهذه الروايات والحكايات الحقيقية تركوا في وجدان الأجيال القادمة بعدهم قيما رائعة وغرسوا مبادئ أصيلة في معنى الانتماء والوفاء للأرض.
أغرقوا قواربهم للدفاع عن أرضهم
هي ملحمة قصيرة من ملاحم عشق الوطن، نستلها هنا بين شواهد تاريخ الأجداد والآباء، حين روت لنا كيف جاء النذير عن ذلك الغازي الطامع الذي حرك سفنه صوب بلادهم يتأبط شرا بوطنهم.
فتنادى بسطاء القوم وعامة أهل الديرة يدفعهم الحس الوطني وقيم الانتماء ومبادئ الوفاء للأرض والوطن للدفاع عن بلادهم، وهم الذين لا يملكون سلاحا ولا ذخيرة ولا عدة للقتال ولا عتادا، ولكنهم يملكون ما هو أشد بأسا وقوة، يملكون إرادة الدفاع عن أرضهم وصلابة الشرفاء الأوفياء وكرامة الرجال الذين يرفضون الجلوس بعيدا بلا حول ولا قوة والوطن يتعرض للخطر المحدق والشر القادم مع السفن الغريبة.
لم يكونوا مقاتلين ولكنهم يملكون روح الجندية وتصميم الجنود على حماية الأرض والعرض.
التفتوا جميعا إلى قواربهم الشراعية البسيطة التي كانت قوارب صيد للأسماك يعتاشون منها ومما يصيدون، وسرعان ما اعتلوها جميعهم متجهين بها نحو المنفذ البحري أو القناة البحرية التي أيقنوا أن سفن الغازي الأشر ستنفذ منها إلى مياههم الإقليمية ومنها إلى شواطئهم وسواحلهم وصولا إلى ما يحقق أطماعهم.
ومبكرا وصلت قوارب الأهالي من عامة الناس وأهل الديرة إلى المنفذ البحري، وبحسم حاسم ودون تردد وبعزم الرجال وحزمهم بدأوا عملية إغراق قواربهم في أعماق المنفذ البحري ليردموه ويسدوه وليمنعوا سفن الغازي الغريب من أن تنفذ منه تمام.
فكانت قوارب صيدهم سدا منيعا تحطمت عليه أوهام الغازي وقد فشلت سفنه في اختراق المنفذ البحري الذي ردمته قوارب صيد البسطاء من أهالي الديرة الأوفياء.
وفيما عاد الغازي الغريب خائبا ارتفعت الأهازيج ومواويل عشق الوطن من حناجر أهل البحر والبر، وهم يهزجون مزهوين بالوفاء منغرسا في أصلابهم والانتماء يجري مجرى الدم في شرايينهم.
وفي قيمهم ومبادئهم ووعيهم الفطري الأول أن الدفاع عن الوطن وعن الأرض بمصدر الرزق «قوارب صيدهم»، وأن الذود عن ترابه بالنفس والنفيس قيمة عظيمة وشرف لا يدانيه شرف آخر.
جنود الاستقلال وتصديهم للسطو على تاريخهم
من يحفر الصخر ويشق البحر لصناعة تاريخه سجلا يفاخر به الدنيا يقف حارسا يقظا على تخوم تاريخه وكنز أجداده وآبائه الذين وثقوه بالتضحيات والبذل والعمل والأمل والعطاء ضد أية محاولة مدسوسة لتشويهه أو تبديله وتحويره، فما بالنا إذا ما تعرض تاريخه لعمليات سطو وخطف من جهات جاءت بلا تاريخ خفية لتسرق تاريخه وتسللت خفية لتسطو على مقتنيات مأثوره الشعبي من صناعات وحرف يدوية أبدعها الآباء والأجداد وتركوها شواهد في ذاكرة الزمن على تاريخ شيدوه بعرقهم وجهدهم ودمهم برا وبحرا. لقد أبوا بعنفوان انتمائهم وصدق وفائهم لتاريخهم إلا أن يفضحوا تلك المحاولات البائسة فوقفوا على رؤوس الأشهاد ليكشفوا للعالم محاولة السطو والخطف لتاريخهم ومأثورهم وتراثهم وفضحوا اللعبة بشهادات حية نابضة بالدلائل ومقرونة بالبراهين والاثباتات.
ومن هذا المنطلق ندعو أبناء وأحفاد طلائع جنود الاستقلال الذي شيدوا البحرين الحديثة وصنعوا تاريخها المعاصر امتدادا لتاريخ قديم عريق وحافظوا عليها بذلا وتضحية، ندعو هؤلاء لمشروع توثيق وتسجيل شهادات أولئك الطلائع وتتبع رواتها وحفظتها لتوثيقها بكل وسائل التوثيق والتسجيل والحفظ، فهذه ذاكرة وطن وهي ذاكرتنا جميعا ولا بد من حفظها، وهو جزء من واجبهم ومهمتهم وهم يكملون بذات الروح والوثابة الطريق الذي بدأته طلائع جنود الاستقلال من الأجداد والآباء الكرام.
التعليقات