المتأمل لكتابات المفكرين والأدباء العرب المحدثين حول المراة شعر وكأن الفكر العربي يعاني من تناقضًا حادًا بين العقل والشعور. فعندما يحتكم المفكر إلى عقله، ويترك جانباً ماورثه من معتقدات وعرف وتقاليد، وما شاب عليه من أفكار وممارسات، فهو لابد أن يشعر بما تعانيه المراة العربية من غبن شديد، ويبدأ في المطالبة بمساعدتها على استراداً حقوقها. أما حينما يظل الكاتب العربي أسيرًا لمشاعره يبدأ كما كتبت الكاتبة المستنيرة إقبال بركة في «مجلة العربي الكويتية مارس 1999» في النظر إلى المراة ككائن غريب تماما عنه أو ربما معاد له ويراها مخلوقاً شاذاً ضعيفاً منحرفاً، لابد أن يكبل بالقيود والا أنطلق يعيث في الأرض فساداً. ويصر البعض على الا يتخلى عن الميراث العتيق الذي مازلنا نحمله فوق كواهلنا على اعتبار أنه جزء لا يتجزأ من الجسد العربي.

إذا اعتبرنا الفكر العربي المعاصر يبدأ من القرن التاسع عشر، فإن افتتاحية ذلك القرن جاءت بشرى تؤذن ببداية تحرر المرأة العربية من اسار الجهل والبطالة. وذلك في كتاب رفاعة الطهطاوي «1801-1873» تخليص الابريز في تلخيص باريز. في هذا الكتاب وردت عبارات كثيرة عن المرأة الفرنسية تعبر عن إعجاب الكاتب بما وصلت إليه من تمدن وثقافة ومالها من منزلة عند الرجل ويبدي الطهطاوي على وجه الخصوص بالفرنسيات المثقفات فيقول: «فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات لكتب من لغة الى أخرى مع حسن العبارات جودتها، ومنهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك ان قوة بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها» يحكي الطهطاوي عن المرأة الفرنسية كما لو كان قد اكتشف قارة جديدة، اوعالما مختلفا، يقدمه لقرائه كما قدم لهم غرائب أخرى اكتشفها في فرنسا وكتب عنها لأول مرة للمشرقيين كالجرنال والمجلة والبرلمان والمسرح والاوبرا.

ودافع الطهطاوي عن الاختلاف فى المجتمع الفرنسي وانكر أنه سبب الفساد فقال: «ان وقوع اللخبطه بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة، والتعود على محبة واحد دون غيره. وعد التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى (الطبقة الوسطى) من الناس دون نساء الأعيان والرعاع». ويقف الطهطاوي مندهشا للمعاملة الطيبة التي تلقاها النساء في فرنسا فلا حجاب ولاضرب والا إهانة ولا مذلة، بل تعتبر المرأة زينة ذلك المجتمع، فيقول: «ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة حسان المسايرة والملاحظة» اكتشف الطهطاوي أن المرأة جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي، مجتمع أعوام 1826 إلى 1831 هو امر مختلف تماما عما تركه في طهطا الحياة الاجتماعية في باريس ومثيلتها في مصر، حتى البيوت تختلف تماماً، وهو يصف ما فيها من ستائر وباركيه ومداخن زخرفية وفازات وصور على الحائط ونجف.

ويبدو من الكتاب أن الطهطاوي اختلط بالفرنسيين، فكما وصف بيوتهم وصفًا دقيقًا وصف أيضا حفلاتهم الخاصة والعامة ورقصاتهم ومسارحهم، وعلى الرغم من تمدينهم وتحررها فإنه لم يرهم منحلين خلقيا بل رأى فيهم العفة والشرف وراهم في ذلك أقرب شبها لعرب منها للترك أو الشعوب الأخرى، فيقول: «ولايظن بهم لعدم غيرتهم على نسائهم لاعرض لهم في ذلك، حيث إن العرض يظهر في هذا المعنى أكثر من غيره، لأنهم وإن فقدوا الغيرة لكنهم عملوا عليهن شيئا كانوا أشر الناس عليهن وعلى أنفسهم وعلى من خانهم في نسائهم». كذلك دافع الطهطاوي عن عفة الفرنسيات وعفافهن، ورأى أن الفرنسيين في مسألة الشرف أقرب إلى العرب منهم للترك وغيرهم من الأجناس فهم يسمون العرض شرفا ويقسمون به وإن كانوا لا يشعرون بالغيرة على نسائهم، وهكذا فرق رفاعة الطهطاوي بين العرض والغيرة فيقول: «إن مادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب ـ هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال، ويدخل في هذا العرض أيضا العفاف، فإنهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب والمذكورة في طباعهم الشريفة».

ويمضي رفاعة الطهطاوي في وصف المراة الفرنسية والمجتمع الفرنسي وعينيه الأخرى على المراة العربية والمجتمع العربي، فهو لا ينسى لحظة أنه آت من مجتمع مختلف كل الإختلاف في التوجهات، فتدل عباراته كم يتمنى لو تغير الكثير من ذلك المجتمع ليقترب من المجتمع الفرنسي. وهو اتجاه جعله يركز على الجوانب الإجتماعية فيذكرها بالتفصيل ويطنب فيها كثيرًا.

إن أفكار كهذه لم يسبق أن وردت في أي كتاب عربي على الإطلاق، هو امر لابد أن يستوقفنا، فموقف الرجل الشرقي من المجتمع الغربي كان دائما ولايزال إلى اليوم، متحفّضًا إن لم يكن رافضا كل الرفض، فكيف أمكن الشيخ الأزهري قادم من مجتمع منغلق إلى أقصى حد، كيف أمكن أن يقف هذا الموقف المتفهم الواعي من المجتمع الفرنسي؟ ولابد أن تلك الأفكار التي نشرت عام 1834 في مصر، وترجمت إلى اللغة التركية، كان لها تأثير كبير في كل من قرأها، ويكفي هنا أن نذكر أن الطهطاوي سافر إلى فرنسا بصحبة شيخين كواعظ وإمام لبعثة محمد علي إلى باريس، بينما اغلب أعضاء البعثة من الاسر التركية والاجنبية المشتركة، فرحلته وترجمته الكتب من الفرنسية إلى العربية كانت ذات دلالة خاصة كما يرى محمد عماره الباحث الاسلامي المعاصر. فالرجل ليس مجرد ناقل فكر العرب وحضارته إلى اللغة العربية، وإنما كان مناضلاً في سبيل أن يوقظ «امته ووطنه بل الشرق» اهل الإسلام قاطبة، كما كان حديثه عن السياسة والدستور ووصفه لمادرسه وشاهده في باريس من مؤسسات الديمقراطية البرجوازية، مقصود به أن يفتح لوطنه وشعبه ساحات الديمقراطية، ويدعوه لطرق بابها بقوة، حتى يتجاوز مستنقعات الاستبداد والطغيان والحكم الفردي البغيض، ولم تقتصر أفكار الطهطاوي عن المرأة على كتابه المهم «تخليص الابريز» بل تناثرت في أغلب مؤلفاته فيقول في كتابه «المرشد الأمين»: المرأة.. (مثل الرجل) سواء بسواء، أعضاؤها كا أعضائه، وحاجتها كحاجته، وحواسها الظاهرة والباطنة كحواسه، وصفاتها كصفاته، حتى كادت أن تنتظم الأنثى في سلك الرجل!...

فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة، في أي وجه كان من الوجوه، وفي أي نسبة من النسب، لم يجد الا فرقاً يسيراً يظهر في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما، فالذكورة والأنوثة هما موضع التباين والتضاد» لم ير الطهطاوي الأنوثة ضعفا، بل إن ضعف البنية الموجودة لدى بعض الإناث ليس إلا ثمرة لأوضاع بيئية واجتماعية وتربوية من الممكن تغييرها وإحلال القوة محل الضعف، وضرب مثلا بذلك نساء الإغريق، ثم رأى الطهطاوي أن ضعف المرأة يؤدي إلى نتائج إيجابية فيقول: «ومما يوجد في الأنثى قوة الصفات العقلية وحدة الإحساس والإدراك على وجه قوي قويم، وذلك ناشئ عن نسيج بنيتها الضعيفة، فترى قوة احساس المرأة وزيادة إدراكها تظهر في الأشياء التي يظهر، بمبادئ الرأي، إنها أجنبية عنها، وأنها فوق طاقة وليس ذكاؤهن مقصورًا على أمور المحبة والوداد، بل يمتد إدراك أقصى مراد، وهو عكس ما يقوله أعداء المراة. دافع الطهطاوي عن المرأة وفند إتهام البعض لها بالمكر والدهاء ورفض النظر إليها» كوعاء يصون مادة النسل لم يكتف بذلك بل اتهم أعداء المراة بالجاهلية.