سمعتُ مؤخرا تعليقين جديرين بإعادة النشر. الأول لأحد الأكاديميين نقلاً عن سفير خليجي قال للحاضرين، في لقاء خاص: لقد بتنا نتعامل مع لبنان باعتباره Narco state، وتعليقا آخر نقلاً عن مراسل "السي إن إن" يقول أن لبنان ليس حالة مافيا تحكم دولة بل مافيا تمتلك دولة.

وصلنا إلى هنا إذن، على الأقل في عين عربية خارجية وعين غربية خارجية. لكن ماذا عن العيون الشبابية اللبنانية في الداخل والخارج التي انخرطت و"طوّرت" خطاب 17 تشرين نحو توصيف قاطع ضد المنظومة السياسية اللبنانية الحاكمة والنافذة.

غير أن كلماتٍ ثلاثاً وردت في البيان المشترك الفرنسي السعودي الذي أعقب زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية كرّست توصيفا معلناً ل "ناركو ستايت" اللبنانية هو عندما دعا هذا البيان لبنان في جملة ما دعا إليه أن لا يكون "مصدرا لتجارة المخدرات".وقد حرص كل بيان مشترك صدر عن زيارات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى دول مجلس التعاون الخليجي على تكرار طلب أن لا يكون لبنان مصدراً لأي عمل إرهابي أو إجرامي.

كانت تجارة المخدرات دائما جزءا من الواقع اللبناني كما هي في دول أخرى ككولومبيا وأفغانستان لكن أن تبدأ جهات دولية بتوصيف مؤسسات الدولة اللبنانية على أنها هي نفسها مخترقة من تجار المخدرات أو مستخدمة في هذه التجارة فهذا توصيف جديد يرفع "مرتبة" لبنان إلى مركز "أعلى" وطبعا أكثر خطورة. مع العلم خلافاً ل"طالبان" فقد بات للدولة الكولومبية سجل طويل من الاصطدام بعصابات تهريب المخدرات.

يحيط وينتج عن هذا التأزم البنيوي في لبنان: 1- انكشافٌ عملي ومالي ولاأخلاقي فادح لكل المنظومة السياسية الحاكمة والنافذة على اختلاف طوائفها 2- تضخّم غير منتج واستنزافي قاتل للقطاع العام، 3- ازدهار التجارات غير المشروعة، 4- منظومة قِيَم احتقارية لفئات التراتب القِيَمي للأزمة.

نحن في الانحدار ولا أريد أن أضع كل الحالات في سلة واحدة. لكن الانحدار يجرف كل شيء. إذْ تسقط القوة الاعتبارية لمِهَنٍ وتعلو لمهنٍ أخرى. ففي أسفل أسفل السلّم (اللا-قِيَمي) سقطت على سبيل المثال مهنةُ "صاحب المصرف" إلى الأدنى بالمطلق. لا شيء يعادل في لبنان اليوم الاحتقار الاجتماعيَ لهذه المهنة، مهنة صاحب المصرف. لقد تجاوزت حتى الاحتقار الذي تتعرّض له مهنة "السياسي" والتي ساهمت في تظهيرها ودفعها إلى مستويات متدنية جدا ثورةُ 17 تشرين التي سبق أن كتبتُ أنها الثورة التي انتهت سياسياً ولكنها تستمر أخلاقياً.

باختصار، ليس من مهنة حاليا في لبنان محتقَرة في نظر المجتمع المنهَك والمنتهَك أكثر من مهنة صاحب المصرف. كانت مهنة صاحب المصرف من أرفع المهن اجتماعيا ومعها حتى جزء من الهيكل الإداري المرتبط بها. أما اليوم فلا تعادلها من حيث الاحتقار أية مهنة أخرى. فإذا كان بعض السياسيين لا يستطيعون السير بين الناس أو الظهور في أماكن عامة فإن جميع أصحاب المصارف أو المنظور إليهم كأصحاب مصارف لا يمكنهم قطعا الجلوس الآمن في أي مكان عام.

كان بإمكان السرقة الفادحة والتاريخية لثروات اللبنانين المقيمين والمغتربين والعديد من السوريين والعراقيين والعرب التي كان القطاع المصرفي فاعلَها المباشر أن تُنتج استثناءات بين أصحاب المصارف كما يحصل في كل الأزمات الكبيرة ولكننا لم نرَ صاحب مصرف واحدا أو مجموعة أصحاب أحد المصارف يلجأ أو تلجأ إلى الاعتراف بضرورة التسديد الطوعي للودائع عبر الإعلان عن وضع ثرواتها (أي أصحاب المصرف) الشخصية وممتلكات المصرف العقارية في الداخل والخارج في تصرف التسديد للمودعين، والكثير من هذه الممتلكات نقداً وعقاراتٍ، بات ضخماً.. كان من سيفعل ذلك سيدخل التاريخ وستُرفَع له تماثيل.

قطاع بكامله هو القطاع المصرفي عاش مائة عام وأكثر في واجهة الاستفادة من كل مراحل الازدهار اللبناني، تخلّى عن شعبه بوقاحة استثنائية وساهم وتحالف مع ناهبيه في مرحلة هي الأكثر صعوبة وانهياراً.

أختم بتغريدة على تويتر لرجل الأعمال الإماراتي أحمد الحبتور جديرة بالتوقف عندها. فهو يلاحظ أن إحدى مواد "مشروع الكابيتول كونترول" المعروض على البرلمان اللبناني تتحدث عن مساعدة القطاع المصرفي على إعادة استقطاب ودائع من الخارج، فيسخر السيد الحبتور من كون البعض في لبنان يعتقد أنه لا يزال بإمكان المصارف اللبنانية بعد كل ما حصل استعادة الثقة بها. وهي سخرية في مكانها.

إنها ثقة ضاعت إلى الأبد في هذا القطاع والمطلوب ليس أقل من إعادة هيكلته بما لا يعني أقل من تأسيس مصارف جديدة غير لبنانية غربية وخليجية ومصرية. أي تأسيس قطاع مصرفي بديل في لبنان ولكن غير لبناني!

وإلى أصحاب المصارف نقول: سقطتم في الامتحان الأكبر. إنه يشبه السقوط يوم القيامة. أنتم وأموالكم وأموال شركائكم الموجودة في الخارج. ننتظر عدالة "آلهة" الخارج. ونقرأ حاليا أنها، أي العدالة، أخذت تدريجياً بالظهور ولو متأخرة، في فرنسا ولندن ونيويورك وربما سويسرا.