أبرز تداعيات الحرب في أوكرانيا هي ظاهرة تصاعد وتبادل العقوبات بين الدول الكبرى وبأسلوب غير مسبوق ولافت في تجاذبات استهدافاته.

ونقرأ في تاريخنا السياسي الحديث أن كوبا هي إحدى الدول التي ربما سبقت دولاً كثيرة من حيث العقوبات التي نالتها من الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الستينات وبداياتها حتى وقت قريب، فنظام كاسترو «الاشتراكي» ومجاورتها جغرافيًا للولايات المتحدة الأمريكية شكل رافعة لأسلوب العقوبات المباشرة وغير المباشرة التي أحاطت بكوبا على نحوٍ مؤلم وقاسٍ، وما كان لنظامها أن يستمر لولا انقسام العالم إلى نظامين، رأسمالي واشتراكي، فاستفادت للبقاء ولشيء من الصمود من الأنظمة الاشتراكية «دول أوروبا الشرقية» لتستطيع التنفس من كثير من الضائقات والضغوطات الاقتصادية التي عانى منها الكوبيون على مدى عقود، حتى قال أحد المعلقين السياسيين في واشنطن: «يبدو أن الكوبيين تأقلموا وتعايشوا مع العقوبات إلى درجة لا يستطيعون العيش بدون هذه العقوبات».

فيما رد أحد المعلقين الكوبيين بملاحظة أن العقوبات دفعت الكوبيين للالتفاف حول نظامه.

وبغض النظر عن مثل هذه السجالات، فإن سياسة العقوبات طالت في مطلع خمسينيات القرن الماضي وقبل أن تطال كوبا، نظام مصدق في إيران، ومصدق رئيس وزراء إيراني أمم النفط، من منظور اعتبره الغرب ولاسيما بريطانيا وقتها تحولاً إلى الاشتراكية وتهديدًا لشريان اقتصادي مهم لاقتصاد بريطانيا.

وقد أوقعت الحكومة البريطانية وقتها عقوبات على حكومة مصدق تمثلت في مقاطعة شراء النفط الإيراني، كما وتوقفت شركات التنقيب البريطانية والشركات الأخرى، مما أوقع حكومة مصدق في أزمة خانقة فعلاً، حتى تم إسقاطها بانقلاب عسكري دبرته المخابرات الأمريكية وإعادة شاه إيران إلى الحكم، كما وقدم مصدق إلى المحاكمة في طهران وكان في حالة صحية متدهورة غشته معها في المحاكمات حالات إغماء شديدة، ولم يطل به العمر بعدها.

كما وأن التسعينات شهدت عقوبات شديدة على حكومة نيكاراغو اليسارية وكانت آثارها سريعة مما ساهم في اسقاط تلك الحكومة التي لم تستمر طويلاً في هذا البلد اللاتيني الذي تعتبره واشنطن حديقتها الخلفية زمن الحرب الباردة، وبالنتيجة لن تسمح أن يقام في محيطها نظام اشتراكي.

أما النظام الإيراني فقد خبر العقوبات منذ بدايات تأسيسه ومع احتلال السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر عام 1979، أي بعد تسعة شهور من قيام نظام خميني، وهو احتلال متهور ومأخوذ بنشوة الانتصار على الشاه الذي غادر طهران، فكان احتلال السفارة وسيلة ضغط لإرغام أمريكا للعمل على إعادة الشاه لطهران ومن ثم تقديمه للمحاكمة.

وكانت خسائر طهران كبيرة لهذا التهور، فقد كان المستفيد الأول هو الرئيس ريغان الذي وصل إلى البيت الأبيض مستثمرًا احتلال السفارة الأمريكية في حملاته ضد الرئيس جيمي كارتر، وعلى إثر وصوله إلى البيت الأبيض اتخذ مواقف أكثر تشددًا من كارتر مع النظام الإيراني.

ولكن أسلوب العقوبات استمر في نقلةٍ أخرى لم تكن متوقعةً من المراقبين والمحللين السياسيين الغربيين حين وجدوا أن العقوبات تنال بلدانهم ومن روسيا هذه المرة التي نالتها هي الأخرى سلسلة من العقوبات، لتغدو العقوبات في هذه المرحلة ومع الحرب على أوكرانيا سلاحًا متبادلاً بين الأطراف التي دخلت الحرب بطريق غير مباشر لكنه طريق محفوف بالمخاطر، فهو طريق العقوبات الاقتصادية التي يبدو أن جميع اللاعبين عليه بدأوا يتضررون منها.