بغضّ النظر إن تَكلّل إحياء الاتفاقية النووية JCPOA بين الدول الست الكبرى والجمهورية الإسلامية الإيرانية بالنجاح قريباً، أو بعد الانتخابات النصفية الأميركية، أو كان مصيره الفشل، على الإدارة الأميركية وحكومات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي برمّته التقاط الأنفاس المهرولة والتعمّق في تداعيات كل السيناريوات وليس فقط دقّ ناقوس الرعب من سيناريو الفشل. التمنّي في أن تساهم الصفقة العالمية مع طهران في تخفيف حدّة عقيدة النظام ولجم نشاطات "الحرس الثوري" المشرف على تنفيذ السياسات الخارجية التوسعية والعدائية يبقى تمنّياً وليس سياسة policy مُعتمَدة. وهذا أمر خطير مهما بدا للعواصم الغربية أن إبرام الصفقة مع طهران هو في مصلحة الدول الأوروبية المتعطِّشة الى النفط والغاز والخائفة من الابتزاز النووي الإيراني، بل والخاضعة له.

قد تكون الحكومات الأوروبية تنفّذ ما رسمته لها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن -كما يعتقد البعض- وقد تكون هي نفسها في مقعد القيادة منذ أن بدأت تلبّي الإملاءات الإيرانية، بل أحياناً تمثّل المواقف والمصالح الإيرانية في مفاوضات فيينا. المهم اليوم أن على الإتحاد الأوروبي التوقّف عن سياسات الغمامة التي تغطي عينَي الحصان blinkers كي لا يرى ولا يفكّر بالتداعيات الإقليمية لإنجاز الصفقة النووية مع النظام في طهران لمجرد أن هذا النظام، من وجهة النظر الأوروبية، لم يعد يشكّل تهديداً للأمن الأوروبي بناءً، إما على تمنيات أو تفاهمات مع القيادة في إيران. كذلك الأمر مع إدارة بايدن التي يبدو أن جزءاً منها متعطّشاً لإبرام صفقة رفع العقوبات عن إيران لا يمانع أن تؤدّي الى تمكين "الحرس الثوري" من تنفيذ سياسات عقيدة النظام بما فيها تقزيم جيرته العربية، وتصدير نموذج الحكم الإيراني اليها وتثبيت وتسليح القوات غير النظامية التابعة له في دول عربية لتقضم سيادتها وفي مقدمها "حزب الله" في لبنان.

إنما، لنقل جدلاً، أن إبرام الصفقة ضروري لا سيّما لتجنّب المواجهة المدمِّرة بين إيران وإسرائيل ولإيقاف البرنامج النووي الإيراني من التطوّر لدرجة امتلاك القنبلة الذريّة. لنقل أن هناك فوائدَ خفيّة كثيرة بين طيات التفاهمات الدولية والإقليمية ستؤدي تدريجياً الى صفحة جديدة في السلوك الإيراني وفي التموضع الأمني الإيراني. السؤال يبقى: ما هي إجراءات الأمان والاحتراز التي يمكن التفكير بها واعتمادها اتّقاءً من إفرازات سلبية للاتفاقية النووية على الصعيد الإقليمي وحرصاً على المصالح الأميركية والأوروبية في الدول العربية، لا سيّما أن العمق الاستراتيجي للصين وروسيا في الشرق الأوسط هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تبنيان معها محور الترويكا الأوتوقراطية؟

البدء بأجواء واشنطن وطهران التي تفيد أن هناك سعياً جدّياً للتوصل الى الصفقة، إنما ما زالت العراقيل موجودة وقد تهدّد بنسف الاتفاق. القيادة الإيرانية تدرس وتحلّل الفوائد والعواقب وتسعى للحصول على وعود قاطعة في شأن شطب "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب إذا وافقت على تأجيل البتّ في هذا الطلب تسهيلاً للتوصّل الى توقيع الاتفاقية. السؤال هنا هو: هل ستتمكن إدارة بايدن من إعطاء الوعود والضمانات أنها مستعدّة لتلبية طلب طهران في الخريف؟

الصيغة التي تُبحَث تقوم على وضع مسألة "الحرس الثوري" في سلّة منفصلة عن الاتفاقية النووية وفي إطار ثلاثي يضم الولايات المتحدة وأوروبا وإيران. لا حاجة الى روسيا والصين في هذا الإطار لأن كلاهما يقف بجانب طهران. فكلاهما يدرك تماماً أن "الحرس الثوري" عنصر أساسي في الحكومة الإيرانية وهو مستفيد كبير من رفع العقوبات. يدركان انه عمليّاً طرف مباشر في الصفقة مهما طأطأ الرأس الآن تمريراً لها بسبب استفادة إيران وحاجتها الى الأموال. الصين وروسيا تتهكّمان على ما تعتبرانه صفقة أميركية مع طرفٍ تصنّفه "إرهابياً"- وهذا التقويم يتلاقى مع تقويم المعارضين الأميركيين لصفقة بايدن لا سيّما في صفوف الجمهوريين وفي الكونغرس.

لذلك، يرى البعض أن توقيع أي اتفاق مع طهران فوراً صعب على الحزب الديموقراطي الذي يخوض انتخابات نصفيّة مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وبالتالي لا يتوقع التوقيع قبل ذلك التاريخ خوفاً من انعكاساته سلباً على المعركة الانتخابية. الرأي الآخر يرى العكس إذ يعتبر إنجاز الاتفاقية النووية قبل الانتخابات هو لصالح الحزب الديموقراطي، لا سيّما إذا كفّت القيادة الإيرانية عن الإزدراء والإهانة للطرف الأميركي برفضها الجلوس مع أقطاب إدارة بايدن علناً والإصرار على التفاوض معها عبر الأوروبيين... وربما في الغرف المغلقة.

ليست مسألة "الحرس الثوري" العرقلة الأكبر حالياً في طريق الاتفاق بل هي مسألة مراقبة البرنامج النووي الإيراني التي تصرّ طهران على عدم التنازل فيها وتسعى أوروبا لإيجاد حلول لها من خلال الضغط على الوكالة الدولية للطاقة الذريّة IAEA بكل ما يحمله هذا الضغط من مخاطر وسوابق خطيرة.

بصورة عامة، نحن أمام بوادر اختراق في المفاوضات للتوصل الى صفقة نووية مع إيران تُشكِّل نقلة في العلاقات الأميركية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتبدو أنها تعيد عقارب الساعة الى الصفقة التي أبرمها الرئيس الأسبق باراك أوباما مع طهران عام 2015. فما هي مجالات التنبّه واليقظة كي لا تتكرر أخطاء الماضي؟ وهل هناك من فسحات جدّيّة للتأكد من عدم تحوّل الاتفاقية النووية مع إيران الى مشروع تدمير تام للسيادة في دول مثل العراق وسوريا ولبنان؟

قد تكون هناك صياغات لغوية مَرِنة للتعاطي مع ناحية "الإرهاب" لتخطّي العرقلة بمعنى إدانة أفعال الماضي والإعراب عن الأمل والتوقّع بسلوك مستقبلي جديد أفضل. ما كشفته التحقيقات عن قرار إيران باغتيال مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة دونالد ترامب يدخل في خانة "الماضي"، إضافة الى أن إدارة بايدن لن تضحّي بالصفقة مع طهران تضامناً مع أحد أكبر الصقور في عهد ترامب.

أوروبا تعتبر أن "الإرهاب" الإيراني توقّف في دارها وهي حريصة على استمرار ذلك حتى وان كان عن طريق استرضاء طهران. أما ما يقوم به النظام الإيراني في المنطقة العربية، فهذا ليس من الأولويات الأوروبية او الأميركية- وهذا خطأ كبير لأن البحر المتوسط ما زال ممتداً بين دول أوروبية ودول عربية، وعبره تتوجّه الهجرة غير الشرعية الى أوروبا. لذلك، من مصلحة أوروبا أن تتنبّه جيداً الى الناحية الإقليمية من إفرازات الاتفاقية الاسترضائية لطهران طمعاً بالنفط والغاز ونزولاً عند الابتزاز.

وسائل تأثير أوروبا في السلوك الإيراني متوافرة لديها بمختلف الأدوات، وهي تفكّر فقط ببعضها. أوروبا تعتقد ان اعتماد واتكال إيران على التكنولوجيا والشركات الأوروبية في فترة تنفيذ مشروع "النهضة" الاقتصادية الإيرانية سيضمن فترة معينة من الهدوء الإيراني، بعيداً من المغامرات السلبية. هذا أولاً.
ثانياً، ترى أوروبا ومعها الولايات المتحدة، أن إعادة اندماج الاقتصاد الإيراني في الاقتصاد العالمي سيفرض على طهران لجم طموحاتها السياسية، بما في ذلك طموحاتها التوسعية في المنطقة العربية.

ثالثاً، إن الصفقة النووية/ النفطية ستؤدّي ليس فقط الى تجنّب أزمة نفطية وإنما ستؤدي، حسب رأي أوروبا، إلى تعاون وشراكة Collaboration بين أوروبا وإيران سترى طهران فوائدها وفوائد التوجّه غرباً بدلاً من الانغماس التام في مشروع الاتجاه شرقاً- وهذا الأمر يكشف أحلام أوروبا التي تبدو اليوم خيالية. إنما من يَعرف؟ إيران تُبدِع في شطارة الاستفادة من التوجهين أحدهما غرباً مرحلياً وموقتاً والآخر استراتيجياً دائماً وشرقاً. وأوروبا ترى أن مصلحتها اليوم آنية نظراً لأزمتها النفطية ولرعبها من النووي الإيراني، وبالتالي تأمل وتتمنى.

رابعاً، أوروبا مقتنعة أن إيران اليوم لن تهدّد أوروبا كما في السابق، ولن تهددها مستقبلاً. الصفقة النووية تطمئن أوروبا، وهذا ما يهمّها. أوروبا اليوم لا تضع إسرائيل في مرتبة الأولويات، ولا تبالي إن هدّدت إيران إسرائيل- فهذا ليس من شأنها. بل إن أوروبا تعتبر إيران اليوم مجرّد "لاعب شقيّ" Trouble maker وليس "عدوّاً" لها- وفي هذا التحوّل فرصة للتأثير الأوروبي على إيران، لو شاءت وتجرأت أوروبا على استخدامها- أو لو فكّرت بها.

خامساً، التحوّل الملموس بعيداً من استرضاء إسرائيل واضح في إنذار أوروبا الى إسرائيل بأنه في حال عرقلتها الصفقة النووية، فإنها ستدفع الثمن. والثمن يكمن في علاقاتها مع الدول الأوروبية، علماً ان إسرائيل، إذا فقدت أميركا وأوروبا كشريكين، وكذلك روسيا، فإنها بمفردها أضعف بل وضعيفة. ما تقدّمه الولايات المتحدة وأوروبا الى إسرائيل هو المزيد من الضمانات الأمنية الى جانب فوائد مباركتها للصفقة النووية مع إيران- الثنائية منها والإقليمية.

سادساً، إدارة بايدن مستمرة في سعيها لتوطيد وتوسيع اتفاقيات ابراهيم بين الدول العربية وإسرائيل، وهي تأمل بأن تصبح إيران طرفاً غير مباشر لاحقاً، عندما يحين الوقت، أما كأمر واقع عبر دول وأطراف عربية تقوم بالتطبيع مع إسرائيل، أو عبر ترتيبات أمنية في الخليج. وأوروبا طرف في هذه الأمنيات والمساعي.

سابعاً، ترى إدارة بايدن والحكومات الأوروبية ان إدخال إيران طرفاً في المفاوضات على نظام أمني جديد في منطقة الخليج والشرق الأوسط سيكون وسيلة لمعالجة الخلافات الإقليمية لاحقاً. رأيها أن الصفقة النووية هي صفقة عالمية يمكن تطويرها الى خريطة طريق نحو خريطة جديدة للعلاقات في المنطقة. ثم إن المفاوضات والمقايضات والتموضع في عملية إنشاء نظام أمني جديد يعني انخراط إيران في العملية- والانخراط يؤثّر في السلوك، بحسب التقويم الأميركي والأوروبي كذلك الروسي الى حدّ ما.

ماذا عن دولة مثل لبنان كمثال لاختبار التمنيات الغربية ولإبراز النقص في الاكتفاء بالتمنّي بدلاً من وضع سياسة ومعالم أمان تضمن سيادة الدولة واستقلال القضاء والاستثمار السيادي في ثروة النفط والغاز؟

أولى المحطات يجب أن تكون في مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والتي واضح أن إيران لا تعرقلها حالياً فيما "حزب الله" يدخل المفاوضات عبر التهديدات والمسيّرات وإقحام المقاومة طرفاً في التنقيب وفي استخراج النفط. لعلّه توزيع أدوار بين القيادة في طهران والقيادة في "حزب الله". إنما ما يجب على الأطراف الموقِّعة على الاتفاقية النووية ان يضمنونه، هو ألاّ تؤدّي نشوة الانتصار الإيراني برفع العقوبات الى تمتين تسلّط "حزب الله" على لبنان في الوقت الذي على هذه الدول أن تقوم بالإجراءات لتمتين سيادة الدولة حماية للبنان وصيانة للاتفاقيات التي ستُبرم مع إسرائيل لكفالة حقوق التنقيب والاستخراج.

أوروبا مُطالَبة بالكف عن اعتبار لبنان ملحقاً لمصالحها فيما تتظاهر أنها حريصة على استقلاله. الصفقة الأوروبية- الأميركية مع إيران لا تعطي أياً منهما حق وضع لبنان تحت الوصاية الإيرانية، كما لا يحق لروسيا أن توكل لبنان أو سوريا الى إيران. إذا كانت هذه ملامح صفقة عالمية، فإن الشيطان بين تفاصيلها، وهو في لبنان.

هناك وسائل ضغط عديدة متوافرة لدى العواصم الغربية عنوانها كطهران، إذا كانت حقاً نزيهة في زعمها أنها حريصة على استقلال بلد ديموقراطي. من التحرك من أجل العدالة في انفجار المرفأ والإصرار على استقلالية القضاء، الى فرض الإصلاحات على كل الأطراف. ان الدول الغربية لم تتصرّف بمستوى المسؤولية. "الثنائي الشيعي" يعطّل التحقيق بجريمة المرفأ وهو يمنع الدولة من التعاون مع صندوق النقد الدولي. هذا أمر يجب أن يكون مرفوضاً دولياً بدلاً من ذلك الاستلقاء والتظاهر بالحركة بلا بركة.

الدور الأميركي المهم في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هو مثال على الانخراط الضروري الذي يجب أن يكون على مستويات عدّة لضمان عدم تحوّل النشوة بالصفقة النووية الى صرخة ندم بعد فوات الأوان.

بالطبع إن الأطراف اللبنانية الداخلية مسؤولة عن الفساد والخراب، لكن المرحلة الآتية تتطلّب كف الدول الكبرى عن الاكتفاء بإلقاء اللوم على اللبنانيين حصراً. أمامها مسؤولية كبرى وهي صيانة بلد مثل لبنان من إفرازات صفقة عالمية. على أميركا وأوروبا بالذات أن تتوقّف لتتأكد من أن تمنياتها الإقليمية من الصفقة مع إيران سياسة policy ذات قواعد وتداعيات. وإلا فإن الجميع سيدفع الثمن لاحقاً مهما بدا للعواصم الغربية أنها في أمان.