قبل سنواتٍ كان لي في لندن عشير بالروح اسمه خليل رامز سركيس. أحببت هذا الرجل وكنت أدعوه بالمعلم، ليس لأنه كان أكبر مني سناً، وكان قد تجاوز التسعين من العمر، بل لأنه كان أديباً مؤدباً، ومن طينة الذين يفكرون كالفلاسفة، ويكتبون بقلوبهم، وكان فوق كل ذلك، أشبه بنافذة مفتوحة على زمن ذهب ولن يعود، وزهرةَ ضوءٍ تتدلّى من سقف العمر، أزوره في شقته الهادئة في الطرف الغربي من لندن، وأنهل من علمه الغزير، وأجد في كلامه العذب والبعيد عن التكلف، ما يشبه المطر الخفيف الذي يبلّل الروح. ولد خليل رامز سركيس سنة 1921، ورحل سنة 2017، لكن ظلّه يصاحبني كلما زرت لبنان ووجدت كيف يتعب هذا الوطن الصغير ويشيخ، وكيف ينسحب الزمن منه رويدًا رويدًا، وتُحاصره مذاهبه، وينهشه اختلاف بنيه، وتضعفه الولاءات. في إحدى المرات سألت الأديب الكبير عن الفترة من تاريخه وتاريخ لبنان التي كانت أجمل سنوات عمره، فقال إن "الأربعينات" كانت تلك الفترة، ثم راح يسرد لي مسيرة عقود تتدحرج نحو العتمة وقال: "كانت الأربعينات أجمل من الخمسينات، والخمسينات أجمل من الستينات، والستينات أحلى من السبعينات، والسّبعينات أرحم من الثمانينات، والثمانينات أعدل من التسعينات، والتسعينات، رغم ما فيها، كانت أفضل من زمن الألفين، والألفين أجمل من الألفين وعشرة". ثم ختم حديثه قائلاً: "نحن نقترب من نهاية فترة 2020، وما أدرانا كيف ستكون مقارنةً بالعقود التي سبقتها".

كان الفرنسيون الذين اعتبرناهم "مستعمرين" يسمّون لبنان "جبل العطور"، تعبير سمعته من المؤرخ اللبناني الراحل يوسف إبراهيم يزبك يوم التقيته في يوم من تسعينات القرن الماضي في مكاتب مجلة "المستقبل" في باريس، رفقة صديقي الدكتور نسيم خوري، الذي كان يعمل في تلك المجلة، وأسال نفسي الآن، كما سألتها ألف مرة من قبل، عن سبب هذا التدحرج، فيأتيني صدى الإنجيل: "كل مملكة تنقسم على ذاتها تُخرب، وكل بيت منقسم على ذاته لا يثبت"، وصدى القرآن: "الأرض يرثها عبادي الصالحون". أقوال تؤكد أننا شعب "عنيد" لا يتعظ، ولا يتعلم من التجارب المرة ولا من الحروب، ولا يستحق هذا البلد الجميل.

لبنان طفلٌ ولدته فرنسا (أمّه الحنون)، ثم تركته صغيرًا بيد رجال "الاستقلال". وإذا كان هناك من يستحق أن يحتفل باستقلال لبنان فهم الفرنسيون، لأنهم خرجوا من مستنقع آسن! نعرف أن هذا الكلام لن يروق لأصحاب الأفكار الوطنية والقومية، بحجة أن فرنسا كانت استعماراً، وأنها، وبريطانيا، قسّمت "بلاد الشام" كيانات. لكن قراءة عقلانية لتاريخ لبنان قبل مجيء ما يسمى "الاستعمار الأوروبي"، تكشف أننا كنا قبائل، وما زلنا قبائل، تقيدها التقاليد، وتربطها بالسماء غرائز دينية لا علاقة لها بالإيمان، تحول بينها وبين بناء وطن للإنسان. نضع اللوم على الغرباء لتدخلهم في شؤون لبنان، ونحن من نمهد لهم الطرق للتدخل، لأننا شعب يعمل ضد نفسه، ولأننا طوائف، لم يحدث مرة أن اجتمعت من قلبها على كلمة سواء.

الرحمة على روحك يا خليل رامز سركيس. كنت تقول إنك تحاول أن تستحق لبنان، ولو كنت اليوم حياً بيننا لسألتك: أي وطن هذا الذي تحاول أن تستحقه؟ أهو لبنان "الاستعمار"، أم لبنان الذي يحكمه زعماؤه "الوطنيون"؟! لم يقل الحاكم الفرنسي للبنانيين أثناء الانتداب الفرنسي على لبنان، ما قاله لورد كرومر للمصريين أثناء الحكم البريطاني على مصر: "تمتعوا بالحرية قبل أن يأتي الاستقلال"، بل ترك للبنانيين أن يكتشفوا ذلك وحدهم!

سألتك ذلك السؤال الحارق، وأعرف تماماً جوابك يا أبا رامز، كما أعرف أن قطعان الخراف الضالة من ستبقى تسير خلف رعاتها وتفديهم بالروح والدم، وكان الأديب سعيد تقي الدين محقاً حين قال: "لم أرَ في حياتي بغلاً أكبر من الرأي العام"، وانت كنت دائماُ على حق أيها الخليل الكبير. سقى الله أيامك وأيامه، وبئس زمن أوصلنا فيه "استقلالنا " إلى هذا الدركِ من الذل والهوان.