قرأت كتاب الكاتبة إيمان مرسال "في أثر عنايات الزيات"، وتأكد لي مرة جديدة أن الكُتّاب المصريين هم ملوك السرد في الثقافة العربية المعاصرة. الكتاب بحث استقصائي عن شخصية أدبية مصرية أثار انتحارها المفاجئ صدىً دراميا كبر مع الوقت وكان ذروتَه على ما يبدو كتابُ إيمان مرسال المشار إليه، والذي حصلتُ على نسخة منه بالاستعارة لمناسبة استضافة مرسال أخيرا في دائرة الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت. الطبعة الأولى من الكتاب صدرت عام 2019 عن دار نشر "الكتاب خان" في مصر. تذهب إيمان مرسال في بحث طويل ومتشعب عن حياة عنايات الزيات من 235 صفحة، لكنها كتبته بأسلوب جذّاب جعلني أقرأه بكامله وبلا ملل، بل بفضول متواصل. ولئن كان الأسلوب الروائي طاغياً، فلم يخلُ السرد من لمحات شِعرية كما من تدخلات محدودة باللغة العامية. يقوم الكتاب على مزيج أسلوبي بين البحث والتحقيق والرواية تعيد فيه الكاتبة "إعادة بناء" شخصية عنايات الزيات من جذورها الطبقية قبل ولادتها حتى موتها انتحارا عام 1963. بل تستمر إعادة البناء حتى النهاية كأن الكاتبة تجمع أشلاء المنتحرة بالمعنى النفسي والجسدي والعاطفي وحتى التاريخي، فيما هي لا تترك وسيلة لتعرف المزيد عنها حتى البحث المضني في مقبرة عائلتها الأريستوقراطية، المقبرة المتهالكة كالطبقة الاجتماعية المدفونة فيها. كل ذلك بأسلوب شيِّق يضعها في مصاف كبار السرديّين المصريين، من توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ إلى يوسف إدريس ورضوى عاشور ويوسف زيدان وعلاء الأسواني. وأضيف من خارج فن الرواية السرديّين الكبار في الصحافة المصرية محمد التابعي ومحمد حسنين هيكل وصلاح الدين حافظ وصلاح عيسى. الآن في مناسبة هذه الملاحظة، أفهم لماذا تميّز الزميل الكبير محمد حسنين هيكل في سرديته الرائعة ككاتب مقالات طويلة وكتب عديدة بيعت منها مئات ألوف النسخ. إنها السلاسة السردية المصرية في الفصحى وفي الفصحى المختلِطة بالعامية، رغم اختلاف الأساليب الشخصية. تتابع إيمان مرسال واقعة انتحار عنايات الزيات كأنها تحقق في جريمة قتل! مَن المسؤول عن دفع عنايات الزيات إلى قتل نفسها؟ الطبقة الاجتماعية الذكورية؟ التقاليد الصارمة؟ أو الأحكام الشرعية التي تنظر في الزواج الفاشل وتقف عمليا مع الزوج الرافض للطلاق؟ أو العشق الفاشل بعد علاقة، وهي الأريستوقراطية، مع ناشط يساري؟ أو النظام السياسي الذي يدير منظومة ثقافية رافضة لإصدار رواية "الحب والصمت" التي كتبت مسودتها وأرسلتها عنايات إلى دار نشر رسمية؟ أو الصحافة (والأسماء الكبيرة) التي أهملت معاناة الكاتبة المثقفة؟ أو الخلل النفسي في تكوين الشخصية الذي جعلها هشّة وتفكر في الانتحار لإنهاء حياتها بعد سوء فهم وتفاهم مع محيطها القريب والبعيد؟ تؤدي الصداقة القائمة منذ الدراسة بين عنايات ومن ستصبح نجمة سينمائية شهيرة في مصر منذ أواخر الخمسينيات تحت اسم ناديا لطفي، دورا مديدا في الكتاب يمتد إلى ما بعد موت عنايات الزيات، ليس فقط بسبب المعرفة الوثيقة لناديا لطفي بالزيات وصِلتِها بأحداث حياتها وأحداث ما بعد موتها، بل أيضا بعقدة الذنب التي تظهر لدى الصديقة كلما استعادت ظروف حادثة الانتحار. تبحث إيمان مرسال في الظروف التي أدت إلى إصدار رواية "الحب والصمت" بعد وفاة كاتبتها الزيات بنحو أربع سنوات. العنصر المأسوي الذي يشد اهتمام إيمان مرسال بالزيات هو تعاطفها مع موهبة كان يمكن أن تقدم الكثير ثقافيا لو أفلتت من مقاصل التجاهل والاضطهاد الاجتماعي والقانوني والشخصي. مستوى آخر في الرواية يظهر جميلا هو مدينة القاهرة وعراقتها الكوزموبوليتية المبكرة وبعض شخصياتها الأجنبية منذ القرن التاسع عشر والتحولات السياسية التي جعلت هذه العراقة تخسر جزءا بل أجزاء مهمة من عناصرها، كما حصل مع مدينة الإسكندرية. وكالعادة في الأدب القاهري وسينماه، هناك حياة المقابر الصاخبة، لا بضرائح الباشوات والميسورين الموتى، بل بالناس الفقراء والعاديين الأحياء اللاجئين إليها بحثا عن منازل لا يجدونها في المدينة. مع أننا في كتاب إيمان مرسال أمام تحقيق استقصائي صارم الوقائع، تشعر كقارئ بأنك أمام رواية أدت براعة الكاتبة مرسال إلى تعايش المخيلة والتحليل النفسي معها، في كتاب لواحدة من ملوك السرد المصري لمن حظي بقراءته.