شغلت إعادة كتابة التراث العربي الإسلامي قطاعاً واسعاً من المفكرين العرب، وأصبحت من القضايا الأساسية في الوقت الراهن.

فقد كان أول من أحيا فكرة إعادة كتابة التراث العربي الإسلامي في الوقت الحاضر الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، وكان قد تناولها في كتابه التراث والتجديد 1980م.

ورغم أنني لا أتفق مع الدكتور حسن حنفي في بعض تصوراته الدينية ومشروعاته الفكرية وتأويلاته للنص الديني تأويلاً عقلياً، إلا أنه يبقى أحد دعاة الحداثة الدينية التي تنتسب لما يعرف بمدرسة السلفيين الجدد، والتي تقوم فكرتها على تأويل النص الديني بما يتلاءم مع العقل، والتي يراها من مستلزمات العصر.

إلا أن قضية الدكتور حسن حنفي الفكرية تتمثل في إعادة كتابة التراث العربي الإسلامي، وذلك في محاولة منه للتوفيق ما بين التراث والعصر، وإن كان في هذا لا يسعى إلى التماثل مع التجربة التحديثية الغربية بقدر ما يسعى إلى التمايز الحضاري عنها.

فمنهجيته الفكرية تقوم على الاختلاف عن الغرب لا التلاقي معه، ولكن مشروعه الفكري لم يتوقف عند إعادة كتابة التراث العربي الإسلامي وإنما دعا إلى إعادة كتابة تاريخ الغرب وحضارته وإرجاعه إلى حدوده ونسبيته، لإعطاء قيمة لكل الحضارات الأخرى: الصينية واليابانية والهندية والفارسية، معتبراً أن الحضارة الأوروبية ليست وحدها الحضارة الوحيدة في العالم.

والهدف كما يقول الدكتور حنفي هو تحجيم الغرب، واكتشاف الشرق، وإعادة كتابة تاريخ البشرية بشكل منصف يقضي على المركزية الأوروبية، وربما قد يعطي بديلاً آخر هو عودة المركزية الإسلامية من جديد.

ويشاركه الدكتور محمد عابد الجابري فكرة إعادة كتابة التراث ولكن برؤية أخرى، إلا أن الدكتور حسن حنفي ينطلق في فكرته من نزعة توفيقية ما بين الدين والفلسفة، والعقل والنقل، محاولاً إدخال الفلسفة في بيئة الثقافة العربية الإسلامية، وإرساء العقل في قلب الشريعة، وعند ذلك تكون دعوة الدكتور حنفي إعادة كتابة التراث من أجل توظيف العقل في مشروعه الفكري، والمزاوجة ما بين التراث والتجديد.

وهذا يعارض تماماً فكرة الدكتور الجابري، والتي ينطلق فيها من عصر التدوين "العصر العباسي الأول"، ويرى بأنها تمثل البداية الفعلية لحركة التدوين، التي شهدت فيها الثقافة العربية الإسلامية أول تخطيط شامل لها.

فقد أنجز في تلك الفترة التاريخية "عصر التدوين" تدوين اللغة العربية بأساليب علمية، وتدوين علوم الحديث والتفسير والفقه والعقيدة، وتطبيق الترجمة والاقتباس وشاركت المجتمعات الإسلامية كلها بثقافاتها وخبراتها وكفاءاتها في حركة التدوين، والتي أصبحت الإطار المرجعي للثقافة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة تلك المشاركات المتعددة والمتنوعة أن تعددت وتنوعت داخل الثقافة العربية الإسلامية المذاهب والرؤى والاستشرافات سواء في مجال الدين أو العلم أو الفلسفة، مما كان عامل إغناء وإخصاب للثقافة العربية الإسلامية.

ذلك أن قوة الثقافة العربية إنما ترجع إلى ما تم في عصر التدوين وامتداداته، والذي يعتبره الدكتور الجابري عصر البناء الثقافي العربي العام، الذي يرى أنه يجب يتخذ منه ليس نقطة بداية للثقافة العربية فقط، بل أيضاً إطارها المرجعي العام.

فعصر التدوين كان عند الدكتور الجابري الفترة الذهبية في التاريخ الثقافي العربي، وما تم في هذا العصر من تخطيط شامل للثقافة العربية لتشييد عصر تدوين جديد وذلك بإعادة بناء شامل للثقافة العربية الإسلامية.

وإذا كان الدكتور الجابري مع إعادة كتابة التراث، إلا أنه لم يكن معتنقاً لوجهة فكرية أو فلسفية كما هو الحال مع الدكتور حنفي، إذ لم يتمذهب بمذهب فلسفي في هذه القضية الثقافية، إنما كان براغماتياً ومفكراً نقدياً، يرجع إعادة التدوين لمصلحة زمنية، في حين أن الدكتور حنفي يحاول أن يضع إعادة التدوين في متاهات الفلسفة، فقد تبنى ما يعرف بالإسلام اليساري، وارتكب أخطاء في التأويل والاستنتاج، وأصبحت أراؤه وأفكاره تثير جدلاً علمياً واسعاً في الأوساط الفكرية، وهي أفكار مؤسسة على الاستقراء الفلسفي وليست على أبحاث تطبيقية، ولم يكن في هذه الحالة سوى تلميذاً مخلصاً للفلسفة.

فقد كان الدكتور حسن حنفي يرى بأن الإسلام عرف مقومات الحداثة، وأن التحدي الراهن أمام الإسلام ليس في عدم وجود مقومات التحديث ولكن في غيابها عن وجداننا.