لم يترك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مناسبة إلّا وأبدى فيها "حسن نيّاته" تجاه النظام الإيراني، فكان الأكثر انفتاحًا بين زملائه الأوروبيّين على الطروحات الإيرانيّة والأكثر تحفظًا بينهم على التعاطي بحزم مع قيادتها، مهما كان مستوى ارتكاباتها فظيعًا.
وقد حال ماكرون دون صدور كثير من القرارات الأوروبيّة ضد النظام الإيراني، وطالما طالب المؤسّسات الدوليّة بممارسة سياسة "النفس الطويل" في تعاطيها مع المخالفات والتجاوزات الإيرانيّة.
طريقة تعاطي ماكرون هذه مع النظام الإيراني جرّت عليه الكثير من الحملات، حتى راح البعض يتعاطى معه على أساس أنّه "الوكيل الرسمي" لهذا النظام، إذ إنّه يسوّق بحماسة كبيرة لصفقات سياسيّة وأمنيّة ومخابراتيّة معه.
وكان ماكرون الرئيس الغربي الوحيد الذي انفتح، من دون "طاقيّة التخفّي"، على أذرع إيران، كما هي الحال مع "حزب الله" في لبنان.
ولكن كلّ ذلك لم ينفع لا ماكرون ولا فرنسا، فالنظام الإيراني لا يفتّش عن أصدقاء، بل عن متستّرين، ولا يطلب نصائح بل خدمات.
وفي الواقع، فإنّ النظام الإيراني يضع الدول الغربيّة التي تتودّد إليه في خانة الخوف والجبن، ويحسبها، في النّهاية، تلهث وراء منافع ماليّة واقتصاديّة.
ولهذا، فهو كلّما ساءه سلوك أو أغضبه موقف لجأ الى "استراتيجيّة الرهينة"، بحيث يسارع الى اعتقال من يقع بين يديه من رعايا الطرف المزعج. التجارب علّمت النظام الإيراني، منذ نشوئه، أنّ الدول المعنيّة بالرهائن، بما أنّها تخاف من غضب شعبها الذي يوليها السلطة في صناديق اقتراع حرّة، سوف تسارع إلى طلب التفاوض، وحينها تضطّر الى التراجع، في سياق المقايضة، عن قرار مزعج وعن موقف غاضب وعن احترام القانون وعن القيم التي تنادي بها.
وقناعة النظام الإيراني بهذا النهج الغربي، جعلت صحفه، قبل ثلاثة أيّام، تذهب إلى تصعيد غير مسبوق إذ طالبت، على سبيل المثال لا الحصر، بتطوير الصواريخ الإيرانيّة "حتى تُصبح الدول التي تتدخّل بشكل سافر في شؤوننا الداخليّة تحت مرماها".
هذا التصعيد الإيراني ضدّ فرنسا، بكلّ الإهانات الشخصيّة التي جرى توجيهها ضد ماكرون، كوصفه في واحدة من صحف النظام بـ "مهرّج الإليزيه"، سببه الأساس أنّ ماكرون استقبل، يوم الجمعة الماضي أربع ناشطات إيرانيّات معارضات، ومن ثم سمّى حراك الشعب الإيراني المستمر منذ 16 أيلول/ سبتمبر ضدّ نظامه باسمه، أي "ثورة".
بطبيعة الحال، لم تشفع لماكرون ومعه للرعايا الفرنسيّين الذين تحوّلوا، فجأة إلى "جواسيس" ف"أسرى"، مواقفه التي حالت دون إدراج "الحرس الثوري الإيراني" في لائحة الإرهاب الأوروبيّة كما اقترح عدد من الدول، وكما سبق أن فعلت الولايات المتّحدة الأميركيّة.
ولكن، هل تغيّر ماكرون فثارت عليه إيران؟
في الواقع، لقد سبق الفرنسيّون في دعم الثورة الإيرانيّة رئيسهم وحتى إعلامهم. اهتمّ بها، نظرًا لما تحمله من معاني الحريّة والتحرّر، المثقفون والأدباء والفلاسفة والفنّانون، منذ أيّامها الأولى.
ولا يمكن، في هذا السياق، الاستخفاف بتأثير الجالية الإيرانيّة في فرنسا والفرنسيّين من أصل إيراني، فلهؤلاء تأثير كبير في شرائح المجتمع كما في دوائر القرار، وقد أبدت أكثريّتهم الساحقة اهتمامًا استثنائيًا بثورة شعبهم.
وهذا يعني أنّ ماكرون التحق بشعبه في الوقوف الى جانب الشعب الإيراني ولم يقد شعبه إلى الوقوف معه. هو، فعليًّا، في موقع المتأثّر وليس في موقع المؤثّر.
قد يكون ماكرون، بفعل منطلقاته السياسيّة كباحث دائم عن لعب دور الوسيط الدولي، قد جُرّ جرًّا إلى إعلان مواقف لمصلحة الشعب الإيراني الثائر، إذ حاول أن يحصر حركته بالأدب السياسي ولا يترجمها الى فعل قوي، ولكنّ النظام الإيراني لا يأبه بكل ذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ردّ النظام الإيراني الذي تميّز بالتهديد الإرهابي والإهانات القاسية هو الأهم: هل سيُغيّر ماكرون طريقة تعامله مع هذا النظام؟
لا إشارات على ذلك، يوم أمس شكا ماكرون السلوك الإيراني تجاه الرعايا الفرنسيّين في إيران، وتجاه الأمن والإستقرار الإقليميّين، ولكنّه في المقابل، دعا النظام "الذي طالما احترمت فرنسا قياداته"، وفق قوله إلى "العودة الى الهدوء واحترام الاستقرار الإقليمي والرعايا الفرنسيّين".
قادة الدول التي عانت الأمرّين من النهج الإيراني "يضحكون في عبّهم"، وهم يدققون في ردّة فعل ماكرون تجاه التصعيد الإيراني، إذ إنّهم أدرى منه بحقيقة هذا النظام، فهو "مخادع" في ليونته وفي شدّته، ولا يُعطي سوى القليل في مقابل أخذ الكثير، وحواراته مجرّد كسب للوقت حتى تنضج الظروف لمصلحته.
وما يعرفه قادة الدول يعرفه اللبنانيّون أيضًا، من خلال تجاربهم مع "حزب الله"، ربيب النظام الإيراني: يعطيك من اللسان حلاوة ويذيقك من الفعل مرارة، يستدعيك إلى الإستسلام مستعملًا أنبل العبارات على وزن التحاور والتشاور والتوافق، يوافق معك على قرارات ومن ثم يهزأ منك ومنها، يحترم المؤسّسات إذا "ماتت من أجله"، يعظّم الرؤساء إذا عملوا لديه، يروّج لأدب الخطاب إذا كان الخطاب موجّهًا إلى "مقامه السامي"، و"يأخذك لحمة ويرميك عظمة".
حتى الأمس القريب جدًّا، لم تكن فرنسا برئاسة إيمانويل ماكرون مستعدة لإعادة النظر في سياستها الإيرانيّة. في الوقت الراهن، هناك ضغوط كبيرة من الداخل الفرنسي، من أجل بدء هذه الورشة. فرنسا، في المطلق، ليست ضعيفة لأنّها تملك بفعل موقعها الدولي أوراق قوّة كثيرة، فهي، على سبيل المثال لا الحصر، تحدّ من اندفاعة "الإتّحاد الأوروبي" ضدّ النظام الإيراني وضدّ أذرعه في الخارج، ولبنان ضمنًا. يكفيها أن...تصمت وتتّبع المقولة الليبراليّة الأشهر:" دعه يعمل، دعه يمر".
التعليقات