وقع شرخ عميق في مجموعة العشرين G20 التي تجمع الحكومات ومحافظي البنوك المركزية من 20 دولة والاتحاد الأوروبي لمناقشة السياسات المتعلقة بتعزيز الاستقرار المالي والدولي بين الدول الصناعية الكبرى السبع ودول نامية كبرى، تمثّل معاً ثلثي سكان العالم ونحو نصف مساحة اليابسة في العالم.
عنوان هذا الشرخ هو الحرب الأوكرانية وروسيا، ونتيجته العمليّة هي انزلاق خطير لمجموعة العشرين وارتفاع كبير في أسهم مجموعة السبع للدول الصناعية الغربية التي استقبلت لفترة روسيا عضواً فيها عام 1997، فأصبحت تُعرّف بمجموعة الثماني، ثم علّقت عضويتها لأجل غير مسمّى بسبب ضمِّها للقرم عام 2014. لماذا الأمر مهم؟ لأن تداعياته على الاقتصاد العالمي وعلى النظام العالمي كبيرة ودلالاته واسعة، ليس فقط من زاوية انحسارٍ آخر لمكانة روسيا على الخريطة العالمية، بل أيضاً لناحية اهتزاز أسس العلاقات الدولية وآليات اتخاذ القرارات الدولية.
مجموعة السبع تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا، وأُسِّست عام 1975. هذه الدول السبع تُعتبر أغنى الأنظمة الديموقرطية الليبرالية، وتستأثر بنسبة 60 في المئة من صافي الثروة العالمية لنحو 10 في المئة من سكان العالم. وبحسب "ويكيبيديا"، معظم أعضاء هذه المجموعة هم قوى عالمية على مسرح الشؤون العالمية، يرتبطون بعلاقات وثيقة متبادلة على الصُعد الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية.
مجموعة العشرين تأسست سنة 1999 بمبادرة من مجموعة السبع، لتضم الاقتصادات العالمية الكبرى استجابة لسلسلة أزمات الديون التي انتشرت عبر الأسواق الناشئة، واحتياطاً لما تتطلبه العولمة والمنافسة والتنمية الاقتصادية. الدول التي تنتمي إلى المجموعة تم تحديدها على أساس جغرافي وليس فقط بسبب حجم اقتصادها. فمن القارة الآسيوية، كل من الصين والهند وإندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية والسعودية. ومن أفريقيا، جنوب أفريقيا. ومن أميركا الجنوبية، الأرجنتين والبرازيل. ومن أوروبا، بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى روسيا وتركيا. أما أميركا الشمالية فإن الدول التي تمثلها هي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. ثم هناك أستراليا من قارة أوقيانيا.
ما حدث هذا الأسبوع هو انتهاء الاجتماع الوزاري في الهند بخلافات منعت التوافق على بيان مشترك، بسبب معارضة روسيا والصين صدور بيانات تندّد بالحرب في أوكرانيا. الهند، رئيسة المجموعة الحالية، قالت إن معظم الدول الأعضاء ندّدت بالحرب وأصدرت "وثيقة ملخّص ونتيجة" لاجتماع وزراء الخارجية باللغة ذاتها التي استُخدمت في بيان صدر بعد اجتماع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية للمجموعة مطلع الأسبوع.
دلالة هذا هي، أولاً، تشرذم مجموعة العشرين وعجزها عن اتخاذ القرارات العالمية، في الوقت الذي تتمتع مجموعة السبع وحدها بوحدة القرار والقدرة على اتخاذ القرار. هذا مهم لأن هاتين المجموعتين كانتا الوحيدتين الجديتيّن على الساحة الدولية، وليس تجمّع "البريكس" مثلاً الذي نشأ كمجموعة دول معارِضة ويضم روسيا والهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. وطأة هذا التطوّر ستكون اقتصادية وأمنية. وستؤثر على عملية بناء النظام العالمي الآتي.
ثانياً، خسرت روسيا منبراً فائق الأهمية لها بسبب الشرخ الذي وقع في مجموعة العشرين. ثم إن الرئيس فلاديمير بوتين كان يأمل حضور قمة مجموعة العشرين التي ستستضيفها الهند في أيلول (سبتمبر) المقبل، فخاب أمل الطرفين، الهند وروسيا، بأن تكون القمة مناسبة تتطلع إليها الدولتان، وخسرت روسيا منبراً رئيسياً كانت أعطته الكثير من تطلعاتها.
الأسوأ لروسيا، هو أن ما حدث في نيودلهي كان مؤشراً ومنبِّهاً لمواقف الدول من حرب أوكرانيا. فالسعودية مثلاً اتخذت خطوات لافتة قبل اجتماع نيودلهي عندما توجّه وزير خارجيتها، الأمير فيصل بن فرحان، إلى أوكرانيا ووقّع اتفاقية بـ400 مليون دولار في زيارة كانت الأولى من نوعها لمسؤول سعودي وعربي أطلقت زخماً جديداً بين البلدين.
والرسالة السعودية إلى روسيا هي الحرص على بذل الجهود لحل الأزمة الأوكرانية - الروسية سياسياً، والامتناع عن الظهور بأن السعودية تدعم روسيا في حربها الأوكرانية. موسكو كانت تأمل الحياد السعودي بحسب تعريفها للحياد. الرياض بعثت برسالة مهمة إلى موسكو من نيودلهي ومن كييف ومن نيويورك.
وهكذا، مع التصويت في الأمم المتحدة في نيويورك على قرار سجّل وقوف 141 دولة ضد روسيا، بما فيها صربيا، في حربها الأوكرانية، ومع ما حدث في نيودلهي، دخلت روسيا مرتبة أخرى من العزلة الدولية وخسرت دورها في عملية صنع القرار العالمي. فالدول الغربية عازمة على حرمان روسيا من مكانتها العالمية وطردها من آليات صنع القرار الدولي. وما حدث في نيودلهي كان قد بدأ في ميونيخ أثناء انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن، بالذات على مستوى وزيرة الخارجية الألمانية.
لكن التطورات الميدانية هي التي أتت بالأنباء الأكثر قلقاً لموسكو، واستفزتها كثيراً. الثلثاء الماضي، شنّت جهة مجهولة هجمات بمسيّرات درونز داخل الأراضي الروسية، واحدة منها على بُعد أمتار من محطة لضخّ الغاز الطبيعي في مدينة كولومنا البعيدة من وسط العاصمة الروسية بـ110كيلومترات يملكها عملاق الطاقة الروسية، شركة غازبروم. يوم الأربعاء وقعت هجمات بالطائرات المسيّرة على مناطق أخرى داخل روسيا وفي القرم.
يوم الخميس وقع هجوم مسلّح في مقاطعة بريانسك داخل روسيا المتاخمة للحدود الأوكرانية، قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، عنه إنه "أظهر أن الغرب يدعم النازيين، ما يجعل زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي مشاركين مباشرين للإرهابيين". وزارة الدفاع الأميركية نفت أن تكون قدّمت إلى أوكرانيا معلومات استخبارية لشن ضربات داخل الأراضي الروسية.
هذه تطورات ذات مؤشرات إلى عناصر جديدة في الحرب الأوكرانية تأتي مع بدء الشهر الحاسم، شهر مارس، شهر العمليات الهجومية المنتظرة، من ضمنها التحضير لعملية هجومية نوعيّة لأوكرانيا ضد روسيا. لكن الوضع يبقى وضعاً لا يمكن التنبؤ به. فهذا شهر المفاجآت التي تقلق كل اللاعبين.
أوروبا متأهّبة سياسياً وعسكرياً من خلال إمداداتها بالأسلحة إلى أوكرانيا لأنها تعتبر الحرب الأوكرانية مصيرية لها. تدرك أنها هي ساحة توسّع الحرب وتداعياتها وليس الساحة الأميركية؛ ولذلك إنها قلقة. إنها أيضاً ليست في مزاج التهاون مع حلفاء روسيا في حربها الأوكرانية، وهذا الأمر أدّى إلى مواقف أكثر غضباً واستعداداً لمعاقبة إيران من المواقف الأميركية نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تحالف إيران مع روسيا في الحرب الأوكرانية أغضب أكثر الدول تفهّماً وتعاطفاً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تقليدياً. والكلام عن ألمانيا. فألمانيا لطالما كانت في طليعة المدافعين عن إيران إلى درجة التحامل على مَن وقف ضدها ومَن انتقد سلوكها الإقليمي. كانت ألمانيا في طليعة الذين رفضوا الاستماع إلى الذين حذّروا من سياسات طهران النووية والإقليمية والداخلية.
أما اليوم، فإن ألمانيا خرجت من سرب الانبطاح الأوروبي أمام طهران، بل أصبحت في القيادة الأوروبية الغاضبة والجاهزة لعقوبات على إيران، بسبب تحالفها مع روسيا في الحرب الأوكرانية.
بالأمس كانت ألمانيا تعتقد أن في وسعها إبقاء إيران تحت السيطرة. اليوم، ومع انهيار محادثات فيينا النووية ودخول إيران طرفاً مباشراً في الحرب الأوكرانية، انهار الجدار الرادع والعائق أمام المفاجآت الإيرانية. أوروبا استدركت، بل أصبحت أكثر حزماً من الإدارة الأميركية.
هناك اليوم تباين أميركي - أوروبي في شأن طبيعة الرد على تخصيب إيران لليورانيوم، بنسبة تسمح لها بإنتاج أسلحة نووية بتقدمٍ غير مسبوق، بعدما أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعثور على جزئيات من اليورانيوم المخصب بنسبة تزيد عن 80 في المئة. إيران تقول إن هذا "تراكم غير مقصود" بسبب صعوبات تقنية في أجهزة الطرد المركزي، بحسب رسالتها إلى الوكالة، وتنفي أن تكون نيتها حيازة السلاح النووي.
الأسبوع المقبل سيكون هناك اجتماع للوكالة الدولية للطاقة الذرية. صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلت عن مصادرها أن إدارة الرئيس جو بايدن متردّدة في إلقاء اللوم على إيران علناً في الاجتماع، بينما تفضّل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا توجيه اللوم رسمياً لطهران في الاجتماع. وهذا حقاً أمر لافت حتى ولو لم تدفع الدول الأوروبية في اتجاه إصدار قرار من دون دعم واشنطن.
كل هذا بسبب الحرب الأوكرانية. حتى في العلاقة الروسية - الإسرائيلية حدث شرخ كان يأمل الكرملين تفاديه مع وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الحكم، رهاناً على العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. اليوم، دخلت إسرائيل حلبة الحرب الأوكرانية مع الغرب وضد روسيا، جزئياً بسبب التحالف بين إيران وروسيا. وقد تترتب على ذلك تطورات إقليمية ليست بعيدة من حرب بين البلدين تستدعيها التطورات النووية... والحرب الأوكرانية.
المناورات العسكرية الإيرانية الأخيرة تعمّدت كشف القدرات الهائلة لدى طهران، تلك في الأجواء وتلك في الأنفاق. فإيران في تأهب وفي مزاج الغضب والاستعداد للاستباق. كذلك موسكو. إنها في مزاج الرفض القاطع للهزيمة. وكلتاهما متأهب للمفاجآت.
التعليقات