من أهم مواصفات النظرية الليبرالية والممارسة الديمقراطية سيادة القانون. في دولة القانون، لا أحد فوق القانون. الحرية، هي القيمة السياسية والأخلاقية العليا، طبقاً للنظرية الليبرالية، لكن عندما يأتي الحديث عن القانون، تتقدم المساواة على الحرية. في دولة القانون يُنظر إلى الجُرْمِ، لا إلى من ارتكب الجريمة.. إلى الإدانة، وليس إلى المُدان، إلى تحقيق العدالة وليس المحاباة أو الخوف.

ذلك، على مستوى الخلفية النظرية لليبرالية، لا بالضرورة على حركية الممارسة الديمقراطية. السياسة، كما هو الحال في كل حراكٍ اجتماعيٍ، لها منطقها الحاضر، بل والجبري، في بعض الأحيان. مهما بلغ تقدم الممارسة الديمقراطية، تبقى «جينات» الفطرة السياسية في طبيعة الإنسان الغريزية (الأنانية) كامنة في خلفية كينونتها الصراعية العنيفة. منطقُ السياسةِ، في صراعٍ سرمديٍ مع رومانسية القانون. في حقيقة الأمر: دوماً ما تكون السيادة والغلبة الحقيقية لمنطق السياسة، وليس لأخلاقية عدالة القانون.

في الولايات المتحدة: هذه المفارقةُ بين منطقِ السياسةِ وعدالةِ القانون، من الصعبِ تجاهل طغيانها على حركة النظام السياسي، ولا على الثقافة السياسية. مرّت أكثرُ من سنتين على محاولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب تغيير نتيجة انتخابات ٢٠٢٠ الرئاسية، ليبقى في حكم الولايات المتحدة لفترة رئاسية ثانية، والساسة الأمريكيون ومؤسسات الحكم في البلاد والإعلام بكل أذرعه وتوجهاته المختلفة، بل وحتى القضاء بكل قوانينه وإجراءاته ومؤسسات إنفاذ القانون بكل ما تمتلكه من أجهزة وخبرات متمرسة ومعقدة، لم تتوصل جميعها إلى الآن لتقديم صيغة اتهام مباشرة ضد الرئيس ترمب، رغم توفر الأدلة لتورطه المباشر في تلك الأحداث بالتحريض والضغط السياسي، والتدخل علناً لتغيير نتيجة تلك الانتخابات، في بعض الولايات.

مؤشرات، ليست في صالح الزعم بسيادة القانون في أقوى ديمقراطيات المجتمعات الغربية، في التاريخ الحديث. اعتبارات السياسة، هنا، وليس مزاعمَ البحثِ عن الحقيقةِ وتحقيقِ العدالة، ما يتحكم في قيم النظام السياسي الأمريكي وحركة نخبه ومؤسساته. إلى الآن لم تطل سطوة القانون سوى أطرافٍ هامشيين شاركوا مباشرةً في أحداثِ ٦ يناير ٢٠٢١، ولم تصل بعد لمستوى رموز ومؤسسات أعلى في سلم التورط في تلك الأحداث، دعك من الوصول إلى الرئيس ترمب، نفسه.

السياسة واعتبارات منطقها وحساباتها ومصالح لاعبيها، هي البطل الحقيقي في أحداث هذه المسرحية، وليس اعتبارات كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، ولا حتى اعتبارات الحفاظ على استقرار النظام السياسي الأمريكي، دعك الغيرة على سمعة الولايات المتحدة، خارجياً. إلى الآن وزارة العدل الأمريكية (النيابة العامة)، لم تتوصل إلى صياغة صحيفة اتهام تصف ما حدث بأنه جريمة يعاقب عليها القانون وتحدد المتورطين المباشرين فيها، تمهيداً لمحاكمتهم. حتى في داخل وزارة العدل نفسها يُدار جدلٌ حول التعامل مع سابقة خطيرة مثل واقعة محاولة قلب نظام الحكم تلك، رغم أن القانون نفسه تكلم عن احتمال حدوث مثل هذا «السيناريو»!

هناك ما يشبه الانقسام في داخل وزارة العدل، حول المضي في التحقيقات، ليس حذراً من الوقوع في محظور المساسِ بنظامِ الإجراءات القضائية، توخياً للعدالة وحرصاً على التجرد، بل الأمرُ وصلَ لدرجةِ الخوف على المستقبل الوظيفي لمسؤولي إنفاذ القانون ورجال التحقيق الفيدرالي من مغبة تغير الأوضاع السياسية مستقبلاً. بلغ الأمر من حساسية القضية سياسياً أن عينَ وزيرُ العدلِ محققاً خاصاً للنظر في القضية، حتى يتخلص من الحرجِ السياسي، الذي قد يسببه تحقيق وزارته المباشر في القضية.

التجربة الديمقراطية الأمريكية، التي يقارب إنجاز استقرارها قرنين ونصف، وتعتبر نموذجاً تاريخياً للتنمية السياسية في المجتمعات المعاصرة، تمر هذه الأيام باختبارٍ صعبٍ وعسيرٍ يصعب فيه المفاضلة بين قيم الممارسة الديمقراطية ومنطق اعتبارات حركة اللعبة السياسية ودوافعها. التوصل لحلٍ لهذه القضية (المعضلة)، من عدمه، يحدد مصير الديمقراطية في الولايات المتحدة، بل ومصير الدولة الوجودي نفسها.

فتش عن السياسة. هناك من هم فوق القانون.. وكثُرٌ مَنْ لا يطالهم القانون.