معهد الأمن القومي في إسرائيل يحذّر هذه الأخيرة من "خطر وجودي" هو "إيران نووية"، لكن الخطر الوجودي الأكبر يأتي في الداخل عبر الانزلاق إلى "حرب أهلية" تحدث عنها علناً الرئيس إسحق هرتسوغ. ومن يأخذ إلى الحرب الأهلية طرفان في الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً. أولهما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يبدو مستعداً لدفع إسرائيل إلى الهلاك لحماية رأسه من دخول السجن في حال إدانته بتهم "الفساد وتلقي الرشى وخيانة الأمانة"، وثانيهما وزير الأمن القومي زعيم حزب "العظمة اليهودية" إيتمار بن غفير ووزير المال زعيم حزب "الصهيونية الدينية" بتسلئيل سموتريتش وبقية قادة اليمين المتطرف الذين يرون أن أمامهم فرصة لتطبيق أجندة "الصهيونية الدينية" في حكم إسرائيل التي يريدون أن تمتد على كل أرض فلسطين من البحر إلى النهر ومعها شرق النهر، أي الأردن، بحسب الخريطة القديمة لحزب "حيروت" بزعامة مناحيم بيغن تلميذ جابوتنسكي والقاعدة التي بنى عليها الجنرال شارون تكتل "الليكود".

والوسيلة المتاحة حالياً هي "الانقلاب القضائي" على المحكمة العليا والديمقراطية عبر سن قوانين تعطي رئيس الحكومة والأكثرية، ولو بصوت واحد في الكنيست، السلطة المطلقة من دون أي قدرة للمحكمة العليا على إبطال قوانين ومنع توزير مدانين بجرائم. وحتى اليوم، فإن الأكثرية اليمينية في الكنيست سنت معظم القوانين المطلوبة بنوع من "حرب عصابات نيابية".

لكن ذلك أثار اعتراض الوسط واليسار و"الدولة العميقة" التي عمادها نخبة الجيش والأجهزة الأمنية والنقابات والجامعات، وهم نزلوا إلى الشوارع بمئات الألوف، وأغلقوا الطرق، وأعلنوا رفض النخبة من ضباط الطيران والعسكر الاحتياط استدعاءهم إلى الخدمة أو إلى التمارين والتدريب، لا بل إن إسرائيل كانت عشية إضراب شامل حتى في السفارات وحركة الطيران في مطار بن غوريون قبل تعليق "الانقلاب".

السفير الأميركي في إسرائيل قال علناً لنتنياهو "أنت في حاجة إلى استعمال المكابح". وميرون رفافورت تحدث عن "محاولة لفرض حكومة يهودا على حكومة تل أبيب". والمقصود بحكومة يهودا هو حكم المستوطنين في الضفة الغربية التي يسميها اليمين المتشدد "يهودا والسامرة"، ويدعي أنها جزء من "أرضنا التاريخية" كما في أسطورة "أرض الميعاد".

والواقع أن إسرائيل تواجه أربعة تحديات خطرة، أولها أزمة انقسام عميق في المجتمع والجيش، وثانيها مواجهة انتفاضة فلسطينية ثالثة ومقاومة من نوع مختلف على يد جيل جديد، وثالثها أزمة مع أميركا وإدارة الرئيس جو بايدن التي انتقدت "الانقلاب القضائي"، ورفضت دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض، بحسب تقليد الدعوة الأميركية إلى كل رئيس حكومة إسرائيلية بعد الانتخابات، ورابعها مواجهة مع إيران لمنعها من أن تمتلك سلاحاً نووياً.

ومن الصعب مواجهة هذه التحديات. فالفارق كبير بين الانقسام في المجتمع والجيش والخلافات السياسية بين الأحزاب التي تتوقف عادة أمام مواجهة خطر خارجي. ولا مجال للقضاء على المقاومة الفلسطينية الجديدة مهما تكن القدرة على العنف والقمع. وإيران صارت "دولة عتبة" نووية، وليست لدى إسرائيل قدرة على إنهاء مشروعها النووي، وقبل ذلك لا قدرة على مواجهة أي من هذه التحديات من دون دعم أميركي صار من الصعب الحصول عليه والاستمرار في "الانقلاب القضائي" في آن، وذهاب نتنياهو إلى عواصم أوروبية ليس البديل عن زيارة واشنطن غير الممكنة حالياً. ولا بديل لإسرائيل عن دعم أميركا التي كانت البديل أيام بن غوريون عن بريطانيا وفرنسا.

والسؤال: إلى أي حد يستطيع الفلسطينيون والعرب الإفادة من هذا الوضع الخطر لإسرائيل؟ وهل تستطيع تل أبيب أن تنجو من الزلزال السياسي الذي أحدثته محاولة "الانقلاب القضائي" عبر التحول بالكامل إلى بلد شرقي؟ والجواب المباشر هو أن أمام الفلسطينيين والعرب فرصة جديدة مفتوحة، وعليهم أن يعرفوا كيف تخدمهم، وماذا عليهم فعله بدل أن يضيعوها كالعادة. وإسرائيل مرشحة لنوع من حتمية السيطرة الدينية على الدولة التي قامت على أساطير دينية وخرافات جرى توظيفها على أيدي قوى علمانية وعسكرية ودول خارجية. وهذه الحتمية ستكون بداية النهاية. وليس اضطرار نتنياهو تحت الضغوط إلى تعليق "الانقلاب القضائي" سوى هدنة موقتة حتى دورة الكنيست المقبلة إن لم ينجح الحوار المفروض أو كان نتنياهو يخادع.