في التاريخ الحديث للمنطقة، أي منذ نهاية الحرب الباردة، وهي نهاية يرمز إليها سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989، حصلت مواجهتان سياسيتان بين الولايات المتحدة وإسرائيل. انتصرت أميركا في الأولى وهُزمت في الثانية. يمكن العودة إلى مواجهة ثالثة، في أيّام غابرة، عندما اجبر الرئيس إيزنهاور في العام 1956 دول العدوان الثلاثي على مصر (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على التراجع والانسحاب من الأراضي المصرية. كانت تلك الظروف مختلفة في عالم مختلف لا علاقة له بعالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إنّه العالم الذي يسعى فلاديمير بوتين، من دون جدوى، إلى إحيائه عبر مغامرته الأوكرانيّة البائسة.
في العام 1990، في عهد إدارة جورج بوش الأب، سعت إسرائيل إلى استغلال الاحتلال العراقي للكويت إلى أبعد حدود. حاولت وضع نفسها في موقع المعني مباشرة بالتطور الإقليمي المهمّ الذي ولد من رحم الحدث الكويتي.
كان الليكودي إسحق شامير رئيسا للحكومة الإسرائيلية وقتذاك. استطاعت الإدارة الأميركيّة وضع إسرائيل عند حدودها وفي حجمها الحقيقي عندما منعتها من التدخل في كلّ ما له علاقة بالحرب التي استهدفت إخراج صدّام حسين من الكويت. وصل الأمر بإدارة بوش الأب، حين كان جيمس بايكر وزيرا للخارجيّة والجنرال برنت سكوكروفت مستشارا للأمن القومي، إلى إرسال بطاريات صواريخ “باتريوت” إلى إسرائيل مع طواقم أميركية لمواجهة أيّ صواريخ كان يمكن أن تطلق من العراق في اتجاهها. للمرّة الأولى كان جنود أميركيون في إسرائيل مع ما يعنيه ذلك من تأكيد واشنطن لرفضها وضع الصواريخ التي أرسلتها في عهدة الإسرائيليين أنفسهم.
لم يعجب ذلك شامير وأعضاء حكومته اليمينية، خصوصا أنّ الإدارة الأميركية رفضت في حينه تشجيع سياسة الاستيطان في الضفّة الغربيّة المحتلّة، وهي السياسة التي كانت الحكومة الإسرائيلية تعتمدها. جمّدت واشنطن مساعدات لإسرائيل خشية ذهاب هذه المساعدات للاستيطان. بعد ذلك، أجبرت الإدارة شامير على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد خريف العام 1991 على أساس القرار 242، الذي يعني بين ما يعنيه الاستناد إلى مبدأ الأرض في مقابل السلام.
تابعت إدارة بوش الأب ضغطها ولعبت دورا في إسقاط الليكود واليمين في الانتخابات العامة وعاد إسحق رابين إلى موقع رئيس الوزراء لفترة قصيرة وقّع خلالها اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات في خريف العام 1993 في حديقة البيت الأبيض.
كانت تلك المواجهة الأولى بين أميركا وإسرائيل في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. كانت المواجهة الثانية بعد وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض وسعيه في العام 2009 إلى استئناف عمليّة السلام في الشرق الأوسط. في العام 2008، كان أوباما لا يزال مرشّحا، عندما زار رام الله والتقى رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية محمود عبّاس (أبومازن) ليقول له إنّه لن يفعل، كما فعل غيره، ولن ينتظر حتّى نهاية ولايته الرئاسيّة الثانيّة كي يباشر الاهتمام بإيجاد تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
كان المرشح الديمقراطي، الذي ما لبث أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة، يشير بوضوح إلى سلوك سلفه جورج بوش الابن الذي تفادى في ولايتيه الرئاسيتين التركيز على القضية الفلسطينية وذهب به الأمر إلى احتلال العراق. أدّى ذلك إلى زلزال ما زالت المنطقة تعاني منه إلى يومنا هذا. كان من الآثار الجانبيّة للزلزال العراقي تراجع القضيّة الفلسطينية من ناحية الأهمّية في ضوء التغيير الكبير في الموقع الإقليمي للعراق وسيطرة “الجمهوريّة الإسلاميّة” عليه…
مع دخول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، التقط بنيامين نتنياهو، الذي كان رئيسا للوزراء، التغيير الذي طرأ على الموقف الأميركي من التسوية في المنطقة. نقل معركته مع الرئيس الأميركي إلى واشنطن بعدما اقتنع بأنّ أوباما جديّ في خيار حلّ الدولتين. استطاع تعطيل جهود الإدارة في هذا المجال. ذهب إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام مجلسي الكونغرس من دون طلب موعد لمقابلة المقيم في البيت الأبيض، ولو من باب اللياقة الدبلوماسيّة.
تحدّى “بيبي” أوباما في عقر داره، في العاصمة الأميركيّة، خصوصا أن أعضاء الكونغرس صفقوا طويلا لخطابه الذي كان في مضمونه صفعة للمقيم في البيت الأبيض وإدارته.
استسلم أوباما أمام نتنياهو. لم يجد الرئيس الأميركي ما يرد به سوى الانحياز لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” ومشروعها التوسّعي والانسحاب عسكريا من العراق تمهيدا لوضعه تحت السيطرة الكاملة لإيران عبر حكومة عراقيّة برئاسة نوري المالكي. في مرحلة لاحقة، دخلت إدارة أوباما في مفاوضات سرّية مع ايران وتوجت المفاوضات، صيف العام 2015، بتوقيع الاتفاق في شأن الملف النووي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” وذلك من دون أيّ نوع من التشاور مع الحلفاء العرب للولايات المتحدة.
كان جو بايدن، عضو مجلس الشيوخ الأميركي منذ العام 1972، ثم نائب الرئيس في عهد بارك أوباما بين 2009 و2017، شاهدا على كلّ ما يدور بين أميركا وإسرائيل. إنّه الشاهد الأول على الطريقة التي أذلّ بها بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي الأسود طوال ثماني سنوات.
ما الذي سيفعله بايدن الآن؟ الأكيد أن الاكتفاء بتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية في شأن ضرورة تراجعه عن عملية إصلاح القضاء ليس كافيا. الأكيد أيضا أن رفض استقبال “بيبي” في البيت الأبيض لن يؤثر على رئيس الحكومة الإسرائيلية.
في المقابل، هناك أمران أكيدان يلعبان في مصلحة الرئيس الأميركي. الأوّل أن الكونغرس الأميركي ليس في جيب “بيبي”، كما كانت عليه الحال في عهد باراك أوباما. الأمر الآخر أنّ اليهود الأميركيين يقفون في معظمهم ضدّ سياسة الحكومة اليمينيّة في إسرائيل. ففي أيّ اتجاه سيسير جو بايدن؟ هل يكون جورج بوش الأب فيضبط إسرائيل… أم يكون باراك أوباما آخر فيستسلم أمام بنيامين نتنياهو الذي يضع مصلحته الشخصيّة فوق مصلحة بلده وعلاقته المتميّزة مع أميركا!
التعليقات