حملت سؤالاً واحداً عبر عقود أطرحه للتسلية على وزراء وأصدقاء وأكاديميين: هل تشعر أو كنت تشعر بضيقٍ أو حرج أثناء حضورك جلسات مجلس الوزراء؟ وهل يمكنك اختصار عملكم في قصر بعبدا أو القصر الحكومي؟ وكيف تسير جداول الأعمال واتخاذ القرارات سواء أكانت الحكومة 16 أو 32 وزيراً؟

يخجل الحبر بنشر ما هو أمامي. وزير حالي قال: «الداخل إلى قاعة مجلس الوزراء مفقود والخارج منها مولود». يختلف الداخل كلّياً عما تسمعونه من مقررات. أعتبر ذاك الوزير أنّ عهد الرئيس ميشال عون كان من أكثر العهود التي تسرّبت عبره الأسرار، ومناكفات المجالس منفوخة إلى الخارج عبر الإعلاميات اللواتي يحصين أنفاس بعض الوزراء داخل القاعات عبر عادة التسريب.


كان من بين الذين ابتلتهم نكبة التوزير بعض الأكاديميين في الحكومات الحالية والسابقة. أكتفي بما أسرّ به الدكتور القاضي أسعد دياب، رحمه الله، وقد تمّ توزيره لمرّتين بعدما كان رئيس الجامعة اللبنانية، وكنت ممثّلاً للجامعة في مركز «الدفاع الوطني» الذي يُصدر مجلّة أبحاث فصلية، فأحرّر بعض خطبه ومداخلاته ومقابلاته الإعلامية، بصفتي مديراً لكليّة الإعلام والتوثيق. قال: قد تحتقر لبنانك لأنّك وزير... يوزّعون علينا جداول الأعمال قبل يومين من الجلسات الوزارية المختصرة في عشرات البنود، لتصل أحياناً إلى مئة وعشرين بنداً.

لا يمكن لأيّ عبقري في الدنيا قراءتها أو الاطّلاع عليها أو حتّى تصفّحها حتّى ولو ادّعى العبقرية. كان الشباب يوافقون عليها بسرعة وكأنّ القرارات مدروسة و«مفبركة» سلفاً ويصبح موقع بعض الوزراء محصوراً بالصورة والفاتورة؛ أي بالراتب والكعب العالي بعيون المواطنين. قال لي يوماً: «هل يمكنك أن تفهم، وأنت جامعي، كيف ومن قام خلال دقائق بتعيين 700 أستاذ جامعي تمّ تفريغهم في الجامعة اللبنانية التي ترأستها، فقط بهدف تحقيق التوازن الطائفي المدروس مسبقاً؛ حيث ضاعت المعايير ولم نرَ الملفات ولا الشهادات وكيف تمّ تقييمها وممّن وحتّى لا مجال لك بطرح الأسئلة؛ بل برفع اليد السريع: صدّق صدّق. لطالما كان البصم هو السائد، فيستغرق الوزراء بالتغامز والتسامر للقرارات المسلوقة طائفياً والمدبّرة سياسيّاً».

وزير في حكومة نجيب ميقاتي قبل أن تعد مستقيلة وحصرها بتصريف الأعمال اتصل بي عبر «واتس أب» غير المراقب منفجراً قائلاً: «حتّى زوجتي وعائلتي يضيقون ذرعاً لمعاناتي؛ إذ أخبرتهم بما يحصل. يحضّونني لشرف الاستقالة إن كنت أعاني إلى هذا الحد، وخصوصاً كلّما دلفت حزيناً متعباً بعد كلّ جلسة إلى المنزل».

تلك مسألة مزمنة دمّرت لبنان المشدود بين رؤساء المطابخ السياسية وخصوصاً منذ انقسام اللبنانيين بين 5 و14 آذار على حدّ السيف عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري. آلت الأمور إلى مقاطعة بعض الوزراء الذين كانوا ينقلبون بمواقفهم السياسية، ونادراً ما كانوا يلجأون إلى تقديم استقالاتهم، احتجاجاً على سياسات الاستئثار المذهبي والتسلّط الحزبي وعدم الاستئناس الدائم برأي الوزراء وتجاوز الدستور، وصولاً إلى تحقيق العدد الضامن أو المعطّل للحكومات التي كان يتمّ تأليفها فقط للقفز المصطنع من قلب الأزمات والانقسامات المُخيفة.

سألت الرئيس سليم الحص في إحدى جلسات الأمانة العامة الأسبوعية ل«منبر الوحدة الوطنية»: متى يصبح عدد الوزراء هو الضمانة لاتخاذ القرار النظيف في الحكومات اللبنانية بما يقينا هذا التهميش ل«معاليهم» أعني وزراء الترضية والبصم ومعظمهم موظفو أحزاب ومرجعيات طائفية لا همّ لهم سوى «القتال» لإرضاء الزعيم والاحتفاظ بالمنصب؟

قال: ستبقى الحالة بدوام الأزمات السياسية والطائفية والمحسوبيات التي خرّبت الجمهورية، وأفرغت التسمية والتعيين والمسؤولية الراقية الحرّة. كيف تستقيم تلك السلطات الإجرائية وكي يمكن محاسبتها فعلاً أمام السلطات التشريعية البرلمانية المتعددة الصفات؟

يفيض المناخ السائد بنقائص الحكم. إنّ معظم الذين شاركوا في الحكومات منذ ال 1992، تاريخ انتقال السلطات، بموجب دستور الطائف، منح الوزراء «الملوك» سلطات تنفيذية معلنة أو سريّة لم يكن يحلم بها وزير بعدما كان مجمل الوزراء السابقين والمستوزرين، يغلّون في حضن رئيس الجمهورية، لضمان استمرارهم في «جنّة الحكم»، وهم يغلّون اليوم في مجموعات من الأحضان، احتفاظاً بلقب معالي الوزير الذي يخلعه هؤلاء عبئاً أمام الباب قبل دلفهم إلى بيوتهم.

أختصر تعليقات بعض الوزراء بكونهم «كما الأطرش بالزفة»، تجري المياه من تحت أرجلهم الممدودة تحت طاولة مجلس الوزراء.

سؤال أخير يبيض جوابه: من هذا الذي يؤلّف الحكومات أصلاً؟
رئيس الحكومة المكلّف أم زعماء الأحزاب والطوائف.