كانت الجغرافيا تلعب دوماً أدواراً شديدة الأهمية في أداء وسياسات معظم دول العالم، وتحدد في كثير من الأحيان طبيعة أدوارها في النظام العالمي الذي توجد ضمنه هذه الدول منذ مئات السنين.

ولعل تأثير الجغرافيا بدا شديد الوضوح في أداء دول القارة الأوروبية التي تتوسط العالم شمالاً، وهو ما جعلها طوال قرون متتابعة في قلب تفاعلاته، وأصبحت القوى الاستعمارية الأكبر في التاريخ وامتدت احتلالاتها لتشمل أركان العالم الأربعة.

وعلى العكس تماماً، لم يعط الموقع المنعزل لدول القارة الأمريكية الجنوبية في جنوب غرب الكرة الأرضية بين المحيطين الأطلنطي والهادي، فرصة لها طوال قرون متعاقبة لكي تقترب من دول العالم الأخرى أو يكون لها تأثيرات متنوعة عليها. وكان هذا هو أيضاً حكم الجغرافيا على دول شرق وجنوب شرق آسيا، التي ظلت تفاعلاتها الخارجية مقتصرة لزمن طويل على الإقليم الذي توجد به دون أن تمتد بعيداً عنه.

وتوضح حقائق الجغرافيا طوال القرون الممتدة من العصور الوسطى وحتى الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، أن الموقع الجغرافي للدول ظل يلعب الدور الأساسي في أدوارها الخارجية واندماجها في النظام العالمي الذي توجد ضمنه.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المثال الأبرز على تغير هذا الوضع والتمرد على مقدرات الجغرافيا. فبعد سنوات طويلة من العزلة الداخلية، دخلت أمريكا إلى العالم الذي لم تكن لها علاقات كبيرة به، من بوابة الحربين العالميتين اللتين شاركت فيهما بقواتها المسلحة وساهمت بصورة حاسمة في نهايتهما وخصوصاً الحرب الثانية. وكانت القوة الاقتصادية ومعها العسكرية الفائقة لأمريكا هي بوابتها لدخول «لعبة الأمم» ولعب أدوارها التي لا تزال حتى اليوم تضعها في مقدمة دول العالم الكبرى المشكلة والمؤثرة في النظام العالمي.

وليس بعيداً عن النموذج الأمريكي، أتت روسيا، حيث لم يكن موقعها الجغرافي في أقصى شمال شرق العالم ومساحتها الشاسعة، يعطيان لها فرصاً كثيرة في الماضي للتداخل في النظام العالمي. ولكن الحرب العالمية الثانية وقبلها تشكل الاتحاد السوفييتي الذي قادته روسيا الشيوعية وامتد حتى وسط أوروبا غرباً، ومعه القوة العسكرية الكبيرة المتنامية بسرعة لها، جعلت منها ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية فاعلاً دولياً كبيراً ومهماً للغاية، حتى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وعودتها لحدودها الجغرافية الأصلية بعيداً عن وسط أوروبا.

بذلك يبدو واضحاً أن القوة الاقتصادية التي تترافق معها قوة عسكرية كبيرة تساعد الدول التي تمتلك كلاهما على التغلب على مقدرات الجغرافيا والانطلاق نحو العالم لتشارك في صياغة شكل نظامه وسياساته الرئيسية، وتصبح فاعلاً رئيسياً فيه.

إلا أن التغلب على موانع الجغرافيا لم يقتصر على القوة الاقتصادية ومعها العسكرية، فقد أتت العقود الأربعة الأخيرة والتي تدفقت خلالها ثورات الاتصال ووسائله وتعددت مظاهر القوة الاقتصادية، لكي تضيف عوامل أخرى تستطيع بها الدول التغلب على هذه الموانع.

فهكذا بدت التجربة اليابانية منذ بداية ستينيات القرن الماضي، ولحقت بها التجربة الصينية ومعها دول النمور الآسيوية منذ ثمانينات نفس القرن، حيث لعب التقدم الاقتصادي والقدرة الهائلة على الإنتاج والتصدير أدواراً غير مسبوقة تاريخياً في إخراج هذه الدول البعيدة جغرافياً عن بقية العالم من عزلتها، وجعلها ليس فقط في قلب تفاعلاته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بل وجعلها حاضرة – عبر منتجاتها – في أعماق مجتمعات كل دولة تقريباً.

ولا شك أن الدور الرئيسي الجديد الذي أضعف من مقدرات الجغرافيا على الدول بجانب القدرة الاقتصادية والتجارية، كان هو التقدم المذهل في مختلف وسائل الاتصال وبخاصة الإلكتروني بكل صوره الجديدة التي لم تكن يوماً في خيال أحد. وقد ساهم هذا التقدم المتواصل بلا انقطاع في دفع البشرية كلها، وفي مقدمتها الدول المنعزلة جغرافياً في شرق العالم وغربه، إلى الاستفادة القصوى منه واستخدامه بكثافة في تعزيز تبادلاتها التجارية وترويج صورتها الإيجابية لدى شعوب العالم كله، بحيث بدت وكأنها جغرافياً في قلبه وليست في مواقعها المعزولة عنه بحكم الإحداثيات الجغرافية التقليدية.