رحم الله أباً كان مضرب المثل في الوفاء والحنان والصدق، كان مربياً حازماً وأباً حنوناً وصديقاً لي عندما كبرت، كنت أقرأ عليه مقصورة ابن دريد وهي قصيدة في مكارم الأخلاق مقررةٌ علينا في مادة الأدب العربي في المعهد العلمي في الرياض، وعندما أصل إلى قوله:

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثاً حسناً لمن وعى

يطلب مني أن أعيده مرة ومرة وكأنه يطلب مني أن آخذ الدرس والعبرة وكذلك يفعل عندما أقرأ قول ابن دريد:

وواحد كالألف إن أمر عنا

كان الصادق الأمين بين الناس في مدينة الرس وهي تخلع رداء القرية وترتدي ثوب المدينة، كان بعض المتخاصمين يلجأون إليه لفض مابينهم من نزاعٍ بدلاً من الذهاب إلى قاضي المدينة، وكان المصدر الوحيد الذي يعتد بروايته للأخبار من الراديو الـPYE الذي أحضرته له هدية كان في نظره من أعز ما قدمته له. كان يستمع لمختلف الإذاعات ويقارن ببن شتى الروايات وعندما يصل إلى السوق تتسابق الأصوات: جاء أبو سليمان كلٌ ينشد الحقيقة منه وهكذا كل يوم، كان يحفظ أسماء زعماء العالم وأقطاب السياسة في منتصف الخمسينيات: ايزنهاور، مولوتوف وبولجانين ثم خروتشوف، نهرو وشوأن لاي وماو، تشرشل وايدن وديجول.

دخلت المدرسة وأنا طفل وتخرجت وأنا كذلك يشهد بذلك زملاء لازالوا على قيد الحياة، دخلت المدرسة والعرب يعيشون النكبة الأولى وعنما كبرت قليلاً أخبرني والدي العزيز أنه في تلك السنة التي أخذني فيها إلى المدرسة كان هناك مئات بل الآلاف من الطلاب من هم في سني فقدوا بيوتهم ومدارسهم وملاعبهم وفروا يمنة ويسرة ليصبحوا عالة على وكالة غوث اللاجئين في مخيمات بلغت 58 مخيماً في فلسطين وما جاورها من البلدان العربية.

وعندما رغبت في السفر إلى مصر للدراسة، اعترضت والدتي بشدة خوفاً عليّ من الغربة، (مع أنني قد بلغت مبلغ الرجال) تدخّل والدي وسافرت وعندما خرجت من قاعة الامتحان في جامعة القاهره 1963 وصلتني برقية تقول: «والدك مريض توجه فوراً» كنت متأكداً أنه أملى البرقية بنفسه، كان يعرف جدول الامتحان ومتى ننتهي.

ولم يشأ رحمه الله أن أقطع دراستي، كانت العلاقات بين مصر والسعودية مقطوعةً، سافرت من القاهره إلى بيروت ثم الظهران ومنها بإحدى الحافلات إلى الرياض. وجدته في كنف ابن عمي الحبيب عبدالرحمن عميد الأسرة حالياً وزوجته شقيقتي رحمها الله، شاحب اللون، تماسك عندما رآني، أدخلناه مستشفى الأمير طلال قالوا إنه يشكو من ورمٍ في بطنه، كان رحمه الله يعلم أن الكتاب المؤجل قد أزف لكنه وقد عركته تجارب الحياة ظل صامداً حتى بعد أن خرج من غرفة العمليات وأخبرنا الطبيب المعالج بالنتيجة التي حسمتها إرادة الله بعد أسبوع من هذه الواقعة، مات والدي وهو ممسك بيدي في إحدى غرف المستشفى ورقد إلى يوم يبعثون في مقبرة العود.

رحل أبو سليمان وترحم عليه في مساجد الرس من عرفه حق المعرفة من أصدقائه. وفقدته أباً وصديقاً ومربياً ونديماً. كل يوم عندي هو يوم الأب، ها أنذا أرثيه بما كان يتمني أن يراه فيّ، ستون عاماً قضيتها في الداخل والخارج في خدمة وطن يعانق النجوم لم أرتكب ما يخالف تعليمات أبي سليمان قيد أنملة، ولهذا كله أقول: لله درك من أب قلما يجود بمثله الدهر، وإذا كانت الأم مدرسة كما يقولون فإن بعض الآباء جامعةٌ لمكارم الأخلاق.

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.