تُصِّر حركة «حماس» على التغني بتسطير البطولات، وكأنّها تضخّ مصل معنويات في عروقها، في حين تواصل إسرائيل فعل الإبادة بحق الشعب الفلسطيني معتمدة على وحشية آلتها العسكرية.

وبالرغم من ذلك ممنوع أي طرح أو قراءة للحرب في غزة، إلا في أبجدية القاموس الممانع. فلا توقف عند النزيف الدموي للأرواح، إلا بما يرسخ الصورة البشعة للإجرام الإسرائيلي. ولا مطالبة بتحقيق دولي إلا عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، ولا إشادة بما صدر عن منظمة العفو الدولية ووكالة «رويترز» و»فرانس برس» إلا عندما يسقط شهداء الصحافة عصام عبد الله وفرح عمر وربيع المعماري على جبهة الجنوب وبنيران عدوة، في حين يُمنع التحقيق محلياً أو دولياً عندما يتعلق الأمر باغتيال الشهداء جبران تويني وسمير قصير ولقمان سليم.

عدا ذلك الميدان بخير، أو أكثر، كما تدل بيانات إحراز إصابات مباشرة ومؤكدة في صفوف العدو، الذي يقضم الأرض ويوسّع المستعمرات، والذي لا يفرق في عدوانه بين الضفة والقطاع والمناطق السورية والجنوب اللبناني، ويوسّع جيشه عمليته البرية ويدفع المدنيين بأعداد كبيرة إلى مساحة تضيق وتتقلص، يوماً بعد يوم، حول رفح، وقرب الحدود مع مصر، بناء على منشورات ورسائل تطالبهم بالنزوح. وتنجح بكل أسف، فوفق «الأمم المتحدة» 1.9 مليون شخص، أي نحو 85% من إجمالي سكان غزة، نزحوا جنوباً جراء الحرب.

ولكن هذه الأرقام والكوارث لا تحول دون تغنِّي «الممانعين» بصمودهم في الميدان. ولن تحول بعد انتهاء الحرب من رفع راية الانتصار، ما يذكرنا بمجريات «حرب تموز 2006» على لبنان، عندما بشرتنا وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس بمشروع الشرق الأوسط الجديد، لكن «حزب الله» حاول التعمية عنه بغسيل دماغ لتكريس «انتصاره الإلهي»، على الرغم من هرولته للحصول على وقف للعمليات العسكرية بموجب القرار 1701.

ففي الواقع، المشروع يُنَفّذ على قدمٍ وساقٍ، بوضوح تام في العراق واليمن وسوريا ولبنان مع تفتيت الدول ومؤسساتها، وتأجيج الاثنيات والطائفيات والايديولوجيات الدينية في المنطقة، ورفض الآخر وتغذية التطرف والإرهاب واستخدامهما في تحقيق بنك أهداف القوى الإقليمية والدولية، وإرساء أسس الفساد وإفقار الشعوب وتجهيلها وإغراقها بالمخدرات المصنوعة محلياً لرفد الاقتصاد الممانع.

وغياب مفهوم الدولة بمؤسساتها وجيشها الوطني وأمنها واقتصادها، هو من إشارات هذا «الشرق الأوسط الجديد»، لمصلحة ميليشيات ذات طابع مذهبي، تدين بولائها وبسلاحها وتمويلها إلى رأس محورها، وتغلِّب مصلحته على مصلحة البلد الذي تحمل هويته. فهذه الإشارات هي ما يخدم إسرائيل أكثر من غيرها.

والعدو الصهيوني سيكون بأحسن أحواله ما دامت دول الطوق محكومة بالفوضى من خلال كيانات لا استمرارية لها إلا بإعادة إنتاج الحروب العبثية، وبالأخص عندما تُبنى على أساس مذهبي يجعلها بطبيعتها توسعية شمولية وغير وطنية، تجيد قمع من يرفضها في شركائها في الداخل، وتجتهد لتقنع أعداءها بأنها الأقوى والأقدر على المفاوضة لتلتمس الاعتراف بها وتزيد نفوذها، ومن خلفها نفوذ من تواليه، وتحصل لها وله على أكبر نسبة من المكاسب في مرحلة ما بعد حروبها العبثية.

ما يخدم العدو الإسرائيلي ومن خلفه الشيطان الأكبر مواصلة تفخيخ الدول المسيطر عليها باسم «المقاومة» لتنهار أكثر فأكثر بعد انتهاء حرب غزة، فتستفيد هي في الإقليم، وتترك لممارسات هذه «المقاومة» وليس لغيرها، أن تساهم من خلال ما سوف ترتكبه حيث تسود، في تبييض صفحتها واستعادة سمعتها كواحة للحرية والتقدم وسط جموع راجعة بإذن الله... إلى الوراء بإذن الله... وعلى أنحس بإذن الله.