لاحظتُ من خلال مشاركتي في بعض الحوارات أن ثمة غموضاً لدى البعض حول مفهوم «الفاعلين من غير الدول» non state actors، وهو المفهوم الذي كَثُر استخدامه مؤخراً بسبب الدور الذي يلعبه الفاعلون من غير الدول في التفاعلات العنيفة في منطقة الشرق الأوسط، بالخصوص خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى المواجهات الراهنة. والأصل في العلاقات الدولية أنها تتم بين الدول، لكن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت ازدهاراً لمفهوم الفاعلين من غير الدول. وعندما أقول ازدهاراً فلأن البعض يعتقد أن المفهوم نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وهو اعتقاد غير صحيح، وأدلل على ذلك مثلاً بأن الإعلان المنسوب لوزير الخارجية البريطانية جيمس بلفور في عام 1917 قد خاطب اللورد روتشيلد رأس عائلة روتشيلد الشهيرة، وهو لا يمثل دولة بطبيعة الحال، وإنما يمثل هذه العائلة ذات النفوذ المالي شديد التأثير آنذاك. وقد حصل الباحث الجاد معتمر أمين على دكتوراه العلوم السياسية مؤخراً من جامعة القاهرة في موضوع «الرابطة العائلية كفاعل دولي»، ومَن يقرأ رسالته يُذهل مِن الأدوار التي لعبتها العائلة بتفرعاتها المختلفة في التفاعلات الدولية.. فما هو تعريف الفاعل في العلاقات الدولية من غير الدول؟
قد يجد الباحث عن إجابة لهذا السؤال صعوبةً لتعدد التعريفات الأكاديمية وتشابكها، لكن التعريف يشير ببساطة إلى وجود كيان لا يرقى إلى أن يكون دولةً بالمعنى المستقر لمفهوم الدولة (أي شعب يعيش على إقليم محدد ويخضع لسلطة حاكمة)، لكن هذا الكيان يمارس تأثيراً على التفاعلات الدولية. ويعني هذا أن جماعات المعارضة المحلية في بلد ما، مهما بلغت قوتها، لا تُعْتبر فاعلاً من غير الدول، لأن تأثيرها يحدث في الداخل وليس في الساحة الدولية. ولابد أن يتمتع تأثير الفاعل من غير الدول باستقلال عن الدولة التي قد يوجد في إطارها، لأنه لو خضع لها أو تأثر بها لأصبح أداة من أدوات تنفيذ سياستها الخارجية. ومع ذلك ففي الواقع العملي، تحدث بعض الأوضاع الملتبسة نتيجةَ وجود علاقة لفاعل دولي ما بالدولة التي يوجد فيها، فـ «حزب الله» اللبناني مثلاً جزء من منظومة الحكم تنفيذياً وتشريعياً، لكنه يتبع سياسة خارجية مستقلة عن الحكومة اللبنانية. لذا فالشرط الأهم للفاعل من غير الدول ليس غياب أي علاقة له بالدولة التي يوجد فيها، ولكن أن يعمل باستقلال عن حكومتها في الساحة الدولية.
وتتعدد أنماط الفاعلين من غير الدول، وأشهرها في خمسينيات القرن الماضي حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وفي السنوات الأخيرة بعض التنظيمات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، مما يعني أن هذا المفهوم ليس قيمياً، إذ قد تنضوي تحت مظلته أيضاً حتى العصابات الإجرامية إذا لعبت دوراً في تفاعلات دولية، وكذلك الشركات الاقتصادية العملاقة عندما تتبنى سياسات خارجية لتحقيق مصالح لا تتطابق بالضرورة مع سياسات الدول التي ينتمي إليها المساهمون في الشركة. ويعتبر البعضُ المنظماتِ الدوليةَ فاعلاً من غير الدول، ورأيي أن هذا لا يحدث إلا عندما تتبنى هذه المنظمات سياساتٍ ملزمةً تختلف عن سياسات بعض الدول الأعضاء فيها، لأنها لو اتبعت هذه السياسات حرفياً لأصبحت مجرد تعبير عن الدول. وبينما يتحول بعض الفاعلين من غير الدول إلى دول بعد تحقيق أهدافهم، كالتحرر من الاستعمار على سبيل المثال، فإن البعض الآخر لا يمكنه ذلك كحالة الشركات الاقتصادية العملاقة العابرة للجنسيات.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة