الحديث عن الفرق بين لفظي بشر وإنسان هو حديث فلسفي لغوي يتجدد عند كل مناظرة بين مفكّرين أو مثقفين أو فلاسفة، وهي قضية شائكة اختلف في استجلائها المفسرون وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع والمختصون في تتبّع أصل الإنسان وملامحه وفروقاته واختلافه عن البشر، ولن نُدخل الدين في هذا التمهيد لاختلاف الآراء التي يعتقد الدكتور محمد شحرور أنه حسمها بقوله إن مصطلح البشر يحمل الصفات البيولوجية والإنسان الصفات المعرفية، أي أن البشر بيولوجي والإنسان معرفي، وبتبسيط أكثر فإن البشر مادة والإنسان معنى. ووسط هذا التعقيد، وربما التبسيط، ينشغل المطورون وعلماء التربية والتعليم بتنمية الإنسان، على الرغم من أن مصطلح التنمية البشرية مستخدم من قبل اختصاصيي تطوير المهارات الحديثين والمحدثين، ولكننا نميل إلى استخدام التنمية للإنسان حين يتعلق الأمر بتطوير المعارف الإنسانية.

ما جعلني أتأمل المصطلحين، البشري والإنساني، هو ما ذكره الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، في حديثه ضمن أعمال القمة العالمية للحكومات الذي جاء بعنوان «مسيرة الأجداد.. ومسؤولية الأجيال»، ونعتقد أن سموه قصد، كما ورد في متن حديثه، المسيرة المعرفية التطويرية والتنموية للأجداد، ومسؤولية الأجيال لمواصلة مشوار التقدّم والتغيير والتطوير، وهو ما تُرجم لاحقاً ضمن مصطلحات أخرى أكثر حداثة بالتنمية المستدامة والابتكار والإبداع، وجميعها تصب في مصطلح مجتمع المعرفة، وهو هدف لكل تنمية تأخذ بأسباب المنجزات العلمية والمعرفية التي حققها الإنسان على مدى عصور، في إطار «صناعة الإنسان».

وهي العبارة التي أكّد عليها سمو الشيخ سيف بن زايد، وهي ليست صناعة بالمعنى المادي للكلمة، ولكنها تشبه إلى حد ما صناعة العقول، وهو دمج منطقي يمزح بين المادي والمعنوي، ليقول إن أهم صناعة هي صناعة الإنسان، لأنها بالفعل، تحتضن جميع الصناعات بما فيها العلوم التطبيقية والإنسانية، وخلاصة ما أنتجته الحضارات، وهي لا تخاطب الإنسان كونها مزيج من المادة والروح، أي المعرفة، ولكن تخاطبة ككائن معرفي في المقام الأول، وهذا ما كان يركّز عليه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إذ كان جُلّ حديثه يتعلق بالتنمية الإنسانية، والارتقاء لتشكيل وإيجاد مجتمع المعرفة، من خلال قوله، رحمه الله، «الدولة تعطي الأولوية في الاهتمام لبناء الإنسان ورعاية المواطن في كل مكان فيها، والمواطن هو الثروة الحقيقية على هذه الأرض»، وكان الشيخ زايد يدرك أن الإنسان بما يحمله من معارف وثقافات هو الوسيلة والهدف في الوقت ذاته، ورعايته لا تقتصر على تقديم الخدمات، إنما الرعاية التي تنقله من كائن بيولوجي إلى كائن إنساني، من الشكل إلى الجوهر، ومن اللغة إلى المعنى.

ولو عدنا إلى حديث سمو وزير الداخلية، خاصة حين يؤكد «أن الأسرة هي أول شكل من أشكال الحكومة، ومرحلة البناء أو الانحدار تبدأ من قوة أو ضعف الأسرة وقيَمها، فإن ضَعُفت تَضعُف الأجيال والقادة، وتؤثر سلباً في قوة الدولة». والمعنى العميق لهذه الجملة يتجاوز السياسي نحو الإنساني، ولا سيّما حين يربط البناء والانحدار بقوة وضعف القيم، وما القيم سوى المنظومة الأخلاقية والمعرفية الإيجابية والسلوكية المتقدمة، التي ترتقي بالكائن نحو معناه وجوهره. وجميل هذا الربط بين الأسرة والحكومة، كون الأولى أول شكل مؤسسي والنواة الرئيسية للحكومة.

ومن هي الحكومة سوى مجموعة من الأسر المؤسسية، إذا جاز التعبير، تتكامل فيما بينها، وتنسق عملها لتخدم المجتمع، المتشكل بدوره من مجموعة من الأسر، وحين قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عبارة «البيت متوحد»، وهي عبارة استراتيجية سياسياً واجتماعياً، فإن صاحب السمو كان يتحدث بمنطق علمي وعاطفي وسياسي واجتماعي واقتصادي، البيت هو الوطن، والبيت هو الحكومة، والبيت هو المجتمع، لكن القائد عادة يوجز ولا يشرح، ويوحي ولا يجهر، وهو الأسلوب ذاته الذي استخدمه سمو وزير الداخلية حين قال إن السفينة تغرق حين تمتلئ بالمياه، ويريد للسفينة الإبحار ومن حولها المياه، وهو تعبير سياسي وشاعري وإنساني، فالسفينة هي الوطن، والوطن هو المواطن، والمواطن هو الإنسان، إذن إبحار السفينة هو مسيرة التنمية بأمن وأمان، ودخول الماء إليها هو الفتن والأخطار.

المسيرة الوحدوية، التي ساوت بين التنظير والتطبيق، منذ إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة، هي مسيرة صناعة الإنسان، وأعتقد أن سمو الشيخ سيف استخدم كلمة تربية الإنسان، لتكون أقل حدة من مفردة «صناعة»، حتى يقترب من المنظومة القيمية للمجتمع، وملامح الشخصية الوطنية، ومبادئ الولاء والانتماء، وعناصر الابتكار والجودة والإبداع، لتكون مخرجات هذه التربية إنساناً يحقّق الاستدامة الإنسانية للبقاء في وطن متجانس، يؤمن باختلاف الثقافات، ويحترم الجميع، وهؤلاء هم المواطنون والمقيمون، فقد ذكر سمو الشيخ سيف، أن المقيم أيضاً عنصر مشارك في التنمية، والهدف أن تكون الإمارات وطنه الثاني، وهذا تطبيق متقدّم لمفهوم التنمية العميقة، ومفهوم التسامح، ومبدأ العيش المشترك، لتكون مخرجات تربية الإنسان: كل من يقيم على أرض الإمارات هو سفير مخلص لها في الداخل والخارج.