عبدالله الزازان

أقرأ هذه الأيام في «المجموعة الشعرية الكاملة» للشاعر الكبير حمد العسعوس، وفي مشروع ديوانه الجديد «سيدة الكلام» الذي يصدر قريبًا. توقفت طويلاً عند شعره الفلسفي الذي يحتل جزءاً كبيراً من تجربته الشعرية كالنصوص التالية: «معركة السؤال»، و«رحلة الحياة»، و«رسالة اعتذار لقلبي»، و«العصا والحزام» وقصائد أخرى، فالشعر والفلسفة يتشابكان داخل القصيدة، وهي حالات وتجارب فلسفية مربها كثير من المفكرين والشعراء النابهين كأبي العلاء المعري والحلاج وحمد الحجي، وعرفها بعض الشعراء الأوروبيين كالألماني فريدرش هولدرلين والفرنسي ستيفان مالارميه، والفرنسي اليوناني الأصل جان مورياس. كما عرفها تاريخ الشعر العالمي، وهي حالة فكرية ونزعة فلسفية تظهر لدى أصحاب المذاهب الفكرية والشعراء الملهمين. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر والى اليوم والشعر العالمي وبخاصة الأوروبي، تحمل بعض نصوصه طابعًا فلسفيًا وفكريًا، وليس معنى هذا أن الشاعر يسعى من خلال قصيدته لأن يكون مفكرًا أو فيلسوفًا، أو يضفي على شاعريته طابعًا فلسفيًا أوفكريًا، فالقصيدة ليست نظرية أو مشروعًا فكريًا، القصيدة كائن مزاجي تنهمر متى ما أرادت، وهي بمثابة قدر بالنسبة للشاعر لا يتحكم في مسارها، فلا تأتي بقرار منه، فهي التي تختار لنفسها التوقيت والشكل الذي تريد، فلا سلطة له عليها، تتدفق أو تنساب أو تنهمر متى ما أرادت: «لست أدري متى تطرق الباب حتى أهيئ مجلسها وأفتح باب الحوار المباح هي دومًا تحب اجتياحي وأي اجتياح إذا داهمتني خضعت لرغبتها الجامحة وسلمت نفسي ووقتي لها إنني أفقد الوعي حتي تصيح القصيدة بين يدي فأنهض كالفارس المستباح» القصيدة ومضة وبوح وإلهام وحالة ذهنية ونشوة ودهشة ولحظة خاطفة، تعتمد على الألهام. يقول جبران خليل جبران: «الشعر ليس رأياً نعبر عنه بالألفاظ، بل هو أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم». لقد توقفت طويلاً عند شعر العسعوس الفلسفي، وأعتقد أنه كان يمر بحالة نضج ووعي وتطور فكري أثناء مراحل حياته، حيث تداخلت حياته بأفكار ومؤثرات فلسفية مع أفكاره الخاصة، وأنه دومًا يعيد النظر في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية. فالنزعة العاطفية والواقعية تتجاذبانه، والاتجاهات الأدبية الكلاسيكية والواقعية والرومانسية والرمزية والسريالية والانطباعية تتناوبان تجربته الشعرية، تقرأ له أحيانًا شعرًا فلسفيًا تأمليًا، وذلك عندما يعرض لك عالمه النفسي عرضًا تحليليًا. فقد كان تطور شعره منسجمًا مع تطوره الفكري، أدخل تغييرات نوعية على القصيدة الحديثة بوصفه شاعرًا موهوبًا ومختلفًا كل الاختلاف عن غيره تأمل هذه الأبيات: «كان بيني وبين المسافة وعد كان بيني وبين المرارة وعد ... ضاع مني طريق وضاع البريق وضاع الزمن ... يا ضياع المشاوير خلف السراب يا ضياع السفر رحت تحملني شهوة للمطر رحت أجتاز عمري الذي ضاع في زحمة الانتظار قمراً رحت أبحث في الشرق عن نجمة نسجت وعدها من خيوط الخداع وألقت ملاءتها لحجر» نراه في بعض قصائده يظهر مهارة عالية في حواره وحديثه مع القصيدة، حيث يعيش حالة عشق معها: «يا ضوء فجري.. يا ظلال حديقتي يا سلة الرمان والتفاح يا نبض قلبي.. يا دموع محاجري يا شمعة الأحزان والأفراح أسمو على ضيم الزمان وأهله بقصيدتي كالبلبل الصداح» ويقول: «أنا والقصيدة طائران مهاجران تلاحما وتنادما وتناغما وتقاسما النتف الزهيدة وكعاشقين تجاورا وتزاورا وتحاورا وتخاصرا وتناثرا بعد السويعات السعيدة» ويقول: «قصيدتي.. يا غذاء الروح في زمن يجوع للحب في كون من الرغد قصيدتي..! يا عزاء الروح في زمن ضاعت مجاديفه في رحلة الكبد كل الجراحات نأسوها بقافية فأسعفيني إذا استسلمت بالمدد وحركي في دمائي فورة سكنت وخلدي رعشة الذكرى إلى الأبد قصيدتي..! أنت بين الناس سيدة تختال بالتاج في تاريخ معتقدي» اتسمت قصائده بالحيوية والوضوح والإمتاع والإبداع والانسيابية والرشاقة والتلقائية والإلهام: «ساهرًا كالنجوم عابرًا كالشياهين فوق الغيوم باحثاً عن محطات حب عميق أنيق رزين جاء بيروت يسعى لإيقاظ فتنتها النائمة جاء بيروت يسعى لإنقاذ أمجادها الناعمة رائع أن تكون المدينة أول من يجذب القادمين لأحداقها رائع أن تنام المدينة فوق سواعد عشاقها آه.. يا هذه الرائعة آه.. يا قبلة الرائعين» لقد نقل الفن الشعري إلى نمط حديث ومعاصر، فقد كان شاعرًا بالمعنى التطبيقي للكلمة، إذ لم يكن شاعرًا فحسب، بل مفكرًا وفيلسوفًا يقف منفردًا بشعره العذب الممتع. العسعوس شاعر نقي ونبيل وبسيط ووديع وهادئ وأنيق ومهذب وخجول، لكنه فطن وذكي وقوي وخارق للعادة: «كنت بدرًا وحل وقت انطفائي كنت بحرًا وزل وقت احتدامي كنت شمسًا وحان وقت غروبي كنت طيرًا وحان وقت ارتطامي سقت مالي كي لا أكون بخيلاً وتماسكت في صفوف الكرام عشت حرًا حين اتخذت طريقي لم أقلد معلمي أو إمامي عشت كل الفصول لم أتل دربًا بل دروبًا تنافست لاستلامي أنشد الحق، لم أحد عنه يومًا حينما تشرق الشموس أمامي رحت شرقًا ومطلع الشمس قصدي ثم غربًا حتى حدود الظلام» يمتلك مجموعة من الوسائط والأساليب الشعرية الخاصة ببناء الصورة الفنية والسمات الأسلوبية والترابط المنطقي، فقد وسع حدود الشعر وأوجد وسائل تعبيرية جديدة، وكلما تقدم الزمن سوف يبرهن على تفرده وتسيده وإلهامه وإبداعه ومهاراته وذوقه الجمالي: «متشائم متفائل بمسيرتي متشائل في جيئتي ورواحي يمضي قطار العمر بي بمتاهة لا أستبين بها دروب فلاحي تلك الحياة وتلك أكثر غادة عاشرتها بتمردي وصلاحي غازلتها وهجوتها بقصائدي وكسبتها بتشددي ومزاحي ذقت المرارة والحلاوة صامتًا بسنينها وأتيت للإفصاح» تلفت انتباهك علاقته بالزمن، يتحرك عمريًا عبر إيقاعات الزمن، فإذا كان الزمن هبة يراه عبئًا ثقيلاً، أسقط من الزمن فلسفة الديمومة وتضاءل إحساسه بالزمن: «يقول لي البيت والباب والقادمون متى ستغادر..؟! يقول لي الأهل في الحي: إنتهى دورك المسرحي..! والزمن الحي لم يبق متسع في المساحة كي يستريح اليمام المهاجر..! حرثت الثرى وغرست النوى وحصدت الهشيم تعلقت في شجر الأمنيات تماديت في سلم الرغبات صعدت هبطت وعدت إلى أول العتبات كما يتسامى ويهبط طائر..!» ما يلفت انتباهك أيضًا، أن له في كل دولة ومدينة قصيدة في «واشنطن، ولاية فيرمونت، أسبانيا، الرياض، الأحساء، دمشق، جاكرتا، الكويت، لندن،طنجة، بيروت،القاهرة، كمبردج، تونس،قطر، أسطنبول»، ويقول في هذا "يعد السفر أحد أهم المحفزات للشعراء نحو الكتابة الشعرية، خصوصًا إذا خلا الشاعر بنفسه على ضفاف بحر أو نهر أو بحيرة، ونظرًا لأهمية السفر وإرتباطه بالإنتاج الشعري، فإنني -شخصيًا- أبحث عن أي فرصة أو مبرر للسفر -أحيانًا- لمجرد الكتابة، حيث إن أي رحلة تعني -في قاموسي الخاص- ميلاد قصيدة أو أكثر.