ليلى أمين السيف

الكلمات الأجنبية بدأت تتسلل إلى حياتنا اليومية بشكل ملحوظ، مما يعكس تراجعًا واضحًا في استخدام اللغة العربية في مجالات متعددة. وبكل روح بطولية تناضل لغتنا العربية، برونقها وتاريخها العريق، منتظرة من أبنائها أن ينتصروا لها، لا أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا التغيير وقد أوجب شيخ الإسلام ابن تيمية على المسلم تعلم العربية ؛ فقال: «إنّ معرفة اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.»

إذا بحثنا في تاريخ الأمم والشعوب والقادة الغربيين لوجدنا اهتمامهم بلغاتهم وتركيزهم على تكريس تعليمها بطريقة صحيحة بينما لا نرى نظيره من لدنا بل نجد من يحاول وأد تعلم لغتنا بحجج عديدة واحدها وليس اخرها موضة المدارس العالمية فهل من عاقل يتنبه.

«لورد دوفرين كتب تقريراً شهيراً، قال فيه: «الأمل في تقدم مصر ضعيف ما دامت العامة تتعلم العربية». هل هناك وقاحة أكثر من ذلك؟ ، ومع ذلك قاومت اللغة العربية على يد بعض من الشرفاء ممن أتسم بروح الإخلاص فكان ان نقلوا العلوم الحديثة إلى لغتنا الجميلة. وكأني بهم بنوا حصناً لغوياً صلباً ليخبروا العالم: «نحن هنا، والعربية لن ترحل، مهما حاولتم وهي قادرة على احتواء كل العلوم والفنون».

لكن القصة لم تنتهِ هنا. فجأة، اجتاحتنا العولمة كإعصار جارف، وأحضرت معها الإنجليزية بكل قوتها. وبتنا نجد أنفسنا نستبدل كلماتنا العربية العريقة بمفردات أجنبية نلصقها في كل جملة وكأنها زينة مستعارة.

والأسوأ من ذلك، أن الكلمات الأجنبية أصبحت تسرق الأضواء وتسحب البساط من تحتنا وبقوة ، بينما تظل مفرداتنا العربية تقف في الخلف، كأنها نُسيت في زوايا التاريخ. ثم تجاوز العامة كل الحدود، وابتكروا مزيجًا غريبًا من الحروف الأجنبية والأرقام، وكأنهم بصدد اختراع لغة لا تنتمي إلى أي هوية. لا هي عربية ولا أجنبية، بل هي «العربيزي»! هل تدركون مدى العبث؟

كانت لغتنا العربية في يوم من الأيام رمزًا للكبرياء والجمال الذي لامثيل له ، لغتنا التي كانت تتألق بمفرداتها الراقية وترافق الشعراء والفلاسفة في إبداعاتهم. أما اليوم؟ أصبحت تتدهور، ككرة ثلج تتدحرج من قمة جبل، تجمع في طريقها كل الكلمات الدخيلة التي تقابلها! «لاب توب» بدلاً من «حاسوب»، و»موبايل» بدلاً من «هاتف خليوي». هل هذا هو المصير الذي تنتظره اللغة التي كانت فيما مضى لغة الشعر والبلاغة؟

لغتنا العربية التي أكرمتنا بجمالها وسحرها تستحق منا الحماية والعناية، لا أن نُفسدها بخلطاتٍ باردةٍ من أرقام لا حياة فيها. وكما قال الشاعر:

«إن الذي ملأ اللغات محاسنًا

جعل الجمال وسره في الضاد»

فهل يليق بنا أن نترك هذا الجمال يضيع في دوامة الأرقام والخليط العجيب من مفردات لاتنتمي للغتنا التي شرفها الله؟

في عام 1836، عندما قرر محمد علي باشا أن يؤسس مدرسة الطب في مصر، كان التدريس باللغة العربية. نعم، تصوروا ذلك! كان الأطباء يتحدثون عن «الرئتين» و»القلب» بلغة عربية فصحى. لكن فجأة، وبدون سابق إنذار، ظهر البريطانيون في عام 1883، وقاموا بتبديل لغة التدريس إلى الإنجليزية. وكأنهم يقولون: «نحن هنا، وجئنا لنسلبكم كل شيء حتى لغتكم»! لكن أنبثق رجال لا تخيفهم نوائب الزمان ولا تثنيهم تقلبات الدهر فتم تأسيس المجمع العلمي العربي في دمشق عام 1919.

وبعدها تم إنشاء معهدي الطب والحقوق وكان شرط الحكومة السورية في تعيين الأساتذة أن يحسنوا التدريس باللغة العربية للعناية بسلامة اللغة لتفي بمتطلبات التعليم والحياة المعاصرة، دون التخلي عن جوهرها الأصيل أو تفريطها في هويتها.

ثم تتابع تأسيس المجامع اللغوية في دول عدة مثل مصر، الجزائر، السودان، ليبيا، العراق، إلى جانب العديد من الجامعات والمراكز العلمية واللغوية، التي حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على اللغة العربية والعمل على تطويرها بما يتناسب مع تطورات العصر.

هل هناك أمل؟

بالطبع، الأمل موجود ما دمنا ندرك قيمة لغتنا. العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي لغة القرآن الكريم، مفتاح فهم الدين الإسلامي، ووعاء الحضارة والثقافة العربية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «معرفة اللغة من الدين»، ولا يتم فهم الكتاب والسنة إلا بها.

ورغم التحديات، ما زالت اللغة العربية تنتظر منا أن ننهض بها، نستخدمها بفخر في حياتنا اليومية، ونورثها لأبنائنا. بإحياء العربية، نحن لا نحيي لغة فحسب، بل نحمي هويتنا وديننا. فلنعد إليها بحب ووعي، فهي تستحق.

والخلاصة؟

اللغة العربية ليست بحاجة للتشدق بكلمات من لغات أخرى أو للتجديد بأرقام وأحرف لاتينية. لغتنا العربية، بتراكيبها وجمالياتها، تحمل في طياتها مرونة هائلة لاستيعاب جميع مفردات العصر الحديث بكل تعقيداته. لكننا بدلاً من استثمار هذه المرونة، اخترنا الطريق الأسهل: اختراع لغة هجينة، بلا قواعد، وبلا هوية وتركنا مفردات العلم والمصطلحات تغزو لغتنا.

لغتنا العربية هي الأم الحنون، التي مهما أهملناها، ستظل تسامحنا وتفتح ذراعيها لنا. لكن قد يأتي اليوم الذي تقول لنا فيه: «لقد خذلتموني». لذا، لنبدأ الآن باستعادة مجد لغتنا قبل أن يفوت الأوان ولنعلم إن هذا واجب مقدس على كل أم وأب ومربِّ.

** **

- كاتبة يمنية مقيمة بالسويد