أي مكان أفضل لقراءة البحث الشائق الذي وضعه أمين معلوف حول «الهويات القاتلة» من «مقهى الشرق» المطلّة شرفاته على شاطئ بيروت الذي تعجّ متنزهاته بالنساء المحجّبات والفتيات الجميلات اللواتي ينافسن بنات باريس ونيويورك بأناقة الملبس وآخر صرعات الأزياء؟ لا شك في أن لبنان هو البلد الأمثل للكتابة حول هذا الإصرار المتعنّت على تعريف الأفراد بهوياتهم الجماعية، وما استتبعه ذلك من تداعيات وأزمات دامية.
لكن من هو أمين معلوف؟ هل هو لبناني لأنه شهد النور في إحدى قرى هذا البلد الذي سكنته عائلته منذ قرون، ولأن العربية هي لغته الأم؟ أو هو فرنسي لأنه يكتب بلغة فرنسا حيث يعيش منذ عقود؟ عندما يطرحون عليه هذا السؤال، خصوصاً عندما يُلِحُّون عليه أن يبوح إذا ما كان يشعر في أعماقه بأنه لبناني أو فرنسي يتملكه القلق؛ إذ يدرك كم هو متأصل هذا الجنوح نحو فرض هوية واحدة وقاطعة على الفرد بغرض معرفته أو فهمه بشكل أفضل. وهو يعرف، كما يشرح بوضوح جلي في كتابه، أن هذا التصنيف هو أفضل السبل إلى عدم معرفة الناس، والاكتفاء بالنظر إلى المظاهر الخداعة، وإلغاء ما تزخر به الهوية الحقيقية من تفرُّد وتبايُن وتناسُب.
يجيب أمين بأنه لبناني وفرنسي، ويضيف أنه لا يرى في هذا الانتماء المزدوج أي تضارب، وأنه ليس فحسب هذا الهجين الفرنسي اللبناني، بل هو أيضاً أوروبي ومتوسطي وشرق أوسطي، وغير ذلك من الهويات الكثيرة التي تلازمه مثل الجنسية؛ فهو يوناني كاثوليكي؛ لأنه وُلد في كنف عائلة تنتمي إلى هذا المذهب المسيحي الذي يشكّل واحدة من الأقليات الدينية التي يتكوّن منها لبنان، ولا حصر للمجموعات التي يتناسب معها أمين معلوف إذا قررنا تحديداً وافياً ودقيقاً لهويته، لن يكون سوى مؤقت في نهاية المطاف؛ لأن الإنسان في غالب الأحيان يرتقي ويتبدّل في قناعاته، وعاداته، ومعتقداته وأهوائه، وتبقى هُويته عُرضة للتحولات طوال حياته، ولا يشذّ عن هذه القاعدة حتى الذين ينكرونها ويصرّون على أن جوهر هُويتهم مقتصر على عِرق، أو دين، أو لغة، أو أمة معينة .
لا شك في أن الهويات الفردية موجودة، بعكس الجماعية التي لا وجود لها، إلا نسبياً، في فجر البشرية، عندما كان العالم مغموراً بالغموض والقلة، ولم يكن للإنسان وجود بوصفه فرداً، بل بوصفه جزءاً من القبيلة التي كانت تؤمِّن له البقاء، لكن مع بداية التطور، وخروج الإنسان عن الإطار الحيواني وانفصاله عن القبيلة، وتميُّزه عن الآخرين، وتفرُّده في مجالات عدة، أصبحت الهويات الجماعية ضرباً من الوهم والخيال، أو تعميماً فضفاضاً وتجريداً متطرفاً لمفهوم الانتماء إلى الجماعة.
وللوقوف على ذلك ليس هناك أفضل من زيارة لبنان، هذا البلد الصغير والسحيق الذي تعاقبت عليه كل الحضارات، من الفينيقية إلى الرومانية والقوطية والعربية والعثمانية، والذي يعدُّ من أكثر البلدان تنوعاً في العالم، ويبدو كأنه مجسّم صغير للكرة الأرضية، ولعله الوحيد الذي تتعايش فيه 17 طائفة دينية معترفاً بها قانونياً.
ربما تكون لبنانياً يعيش في القرن الحادي والعشرين، مثل أبنائه المتخرجين في أرقى الجامعات، وتجاره والمصرفيين الذين يتقنون 3 أو 4 لغات، ويتواصلون مع أكثر المناطق تطوراً في العالم... أو لبنانياً لم يخرج بعد من عالمه الديني الساحر والبدائي، مستكيناً في عقلية القرون الوسطى من التعصب الديني والأخلاقي، لكن هذا لا يجعل من لبنان بلدين مختلفين، بل هي بلد واحد ممزق، وفي الوقت نفسه هو زاخر بالتنويعات الثقافية والدينية والنفسية واللغوية التي تتعايش وتتناحر على أرضه.
أواسط سبعينات القرن الماضي تعرّفت في مدينة كان الفرنسية إلى جورج شحادة، الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني بالفرنسية، عندما كان بين أعضاء اللجنة التحكيمية للمهرجان السينمائي المعروف. بعضنا كان شغوفاً بمشاهدة 4 أو 5 أفلام كل يوم، بينما هو لم يكن يتردد على قاعات السينما أكثر من مرة أو اثنتين في العام. كان كهلاً راقياً وحاد الذكاء، قال لي يوماً في معرض الحديث عن الحرب الأهلية التي كانت بدأت تعصف بلبنان: «كنت أعتقد أنني أعرف بلدي الذي قضيت فيه حياتي كلها، لكنِّي الآن، فجأةً، لم أعد أعرفه. الناس الذين كانوا يتعايشون بوئام، ويتخالطون ويتقاسمون كل شيء، تحولوا بين ليلة وضحاها إلى أعداء يتقاتلون، وينكِّلون ببعضهم». وقد رددت أنا مثل هذا الكلام في الثمانينات عن البيرو عندما غرقت في حمام الدم الذي تَسَبَّبَ به تنظيم «الدرب المضيء».
هذه الهويات القاتلة التي ينبذها أمين معلوف بوعي ناصع، تسببت في بلاده بنشوب حرب أهلية أوقعت ما يزيد على 200 ألف قتيل، وأوقعت عدداً لا يحصى من الجرحى، ودمّرت العاصمة بيروت. ورغم أن جهود الإعمار كانت جبارة في وسط المدينة الذي ارتفعت فيه أيضاً عمارات جديدة صمّم بعضها كبار المهندسين المعاصرين، ما زالت آثار الحرب والدمار بيّنة على بعض المباني العريقة، دليلاً على أن غشاء الحضارة رقيق جداً، ويتمزّق بسهولة تحت وطأة الإفراط والعنف ليكشف عن الوحشية التي كانت تعشش تحته.
تلك الحرب الأهلية لم تكن سوى مرحلة أخيرة من سلسلة عنف طويلة تولدت من رحم الهويات القاتلة. لم تقتصر المواجهات الدموية على صراع بين المسيحيين والمسلمين، بل تعدتها إلى أعمال قتل وانتقام واختطاف وعربدة دموية، كانت تتخللها فترات طويلة من التعايش السلمي والصداقة والوئام بين الأشقاء الأعداء. وفي بلدة المختارة التي تقع في جبال الشوف يقع قصر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، حيث خَصَّصَ جناحاً لذكرى أفراد عائلته وأنصاره الذين قضوا على يد الأعداء، ومن بينهم والده كمال جنبلاط الذي اغتيل في كمين على مقربة من مسقط رأسه، وقد ظنّ أتباعه أنه من تدبير المسيحيين فقاموا باغتيال ما يزيد على 300 ماروني من جيرانهم، ليتبيّن بعد ذلك أنها كانت مؤامرة خطَّط لها ونفذها السوريون الذين كانوا يحتلون لبنان يومذاك.
لكن العيش محاطاً بالموت لم يكن حائلاً دون روح الفكاهة عند زعيم الأقلية الدرزية الذي يجمع بين صورة الإقطاعي والمثقف الكوزموبوليتي المتأنق. وهو متزوج من نورا، وهي سيدة فائقة الجمال تستقبل ضيوفها على طراز الملوك، ويعيش في قصر أشبه بقلعة حصينة، يحميه عشرات المسلحين، ويمتلك مكتبة رائعة تضمّ آلاف الكتب بأربع أو خمس لغات، وهوايته المفضلة هي جمع أبشع اللوحات الواقعية من المرحلة السوفياتية: لينين يخطب في رفاقه، ستالين باسماً كالأب الرؤوف، والمارشال يوكوف على صهوة حصانه الأبيض.
كثيرة هي الألغاز التي تعيش فوق تراب هذا البلد العريق الذي لا شك في أنه ذهب في طريق الحداثة أبعد من أي بلد آخر في المنطقة، وهو من أجمل البلدان التي تعرفت إليها في حياتي، وأكثرها تحفيزاً على التأمل والتفكير، لكنه في الوقت نفسه، ما زال متشبثاً بمنطق القبيلة، يتوجّس خيفة من الاقتراب من هذا العالم الذي أسقط الحدود، وكان هو أحد روّاده في الماضي، والمخاطر التي يحملها الانعتاق من الهويات الجماعية لاختيار الهوية الفردية.
التعليقات