حينما تنزاح الكراسي الإعلامية التقليدية المُتمثلة بوكالات الأنباء الكبرى والمؤسسات الإعلامية العريقة التي طالما تحكمت بالخبر.. هذه الكراسي التي بقيت ثابتة خلف ميكروفونات مُسيطرة على المشهد الإعلامي، بدأت اليوم تنزاح عن عرشها وإن لم تنكسر بعد، لكنها فقدت الكثير من تأثيرها أمام تيار جديد من الإعلام الرقمي، وجيل جديد تعجز الخوارزميات المُدربة عن لجم انجرافه نحو الغد الباحث عن وراء الخبر قبل الخبر نفسه، هو جيل اليوم.. جيل «زد».
يسمونهم مواطنين عالميين يمتلكون وعياً بالقضايا العالمية ويمتازون بثقافة البحث عن العدالة الاجتماعية ويشككون في المؤسسات التقليدية. جيل«زد».. هو الجيل الذي ولد تقريباً (1995-2012) جيل ولد والشاشة في يده. ليسوا نسخة مُكررة من الأجيال السابقة، بل كائنات اجتماعية تشكّلت في زمن غيّر قواعد اللعبة كلها.
هذا الجيل لم «يتعلم» التكنولوجيا.. نشأ فيها، الإنترنت بالنسبة لهم ليس اختراعاً مُدهشاً، بل أرض الميلاد. الهواتف الذكية ليست أداة، بل امتداد للذاكرة والهوية. لذلك نجد طرق تفكيرهم، معرفتهم، وصياغتهم لعلاقاتهم مختلفة تماماً. هم أكثر وعياً بالهوية الفردية. يريدون أن يكونوا «هم» من دون أقنعة. يميلون في الغالب الى التشكيك في الخطابات الجاهزة وفي الأخبار الآتية عبر مؤسسات الإعلام العالمية التقليدية، فيبحثون وراء كل خبر عن مصادره وهي اليوم متاحة عبر المنصات الفضائية.
لم تعد تغشهم المصادر التقليدية، على العكس هم الجيل الذي يرفض أن يصدق قبل أن يتأكد من مصداقية ما يصلهم، يناقش يحلل ويُعارض ما لا يوافق قناعاته. هم جيل عالمي دون مبالغة، ليس لأنهم يسافرون أكثر، بل لأنهم يعيشون في شبكة تمتد عبر الحدود. أصدقاء من مختلف القارات، قضايا لا تعرف خريطة، وثقافة يومية مصدرها العالم كله. وعيهم بالقضايا الكبرى ليس رفاهية فكرية. المعلومات أمامهم في كل لحظة: حروب، اغتيالات، أزمات، الأخبار مُتدفقة بلا توقف.. هم جيل يسأل: ما الذي حدث؟ ولماذا؟ ولا يكتفي بإجابة واحدة.
مع تطور غريزة البحث عن الحقيقة وسط هذا الكم الهائل من الأخبار المتناقضة، سقطت ثقتهم في وكالات الإعلام العالمية. إذا سمعوا شيئاً يذهبون فوراً للتحقق، والوسائل متاحة: بحث سريع، مشاهدة مقاطع تحليلية، مقارنة مصادر مختلفة. الأمر يشبه امتلاك جهاز كشف كذب ذهني نشط ودائماً. بدأت معهم كراسي المؤسسات الإعلامية العريقة تنزاح عن عرشها المُتَصلِب ما جعلها تنشط في المنافسة على المنصات، فاتحة لهذا الجيل باب المشاركة بالتحليل والمناقشة.
هم جيل جديد مختلف عن جيل الألفية الذي سبقه. حيث يَعتبر الباحثون أن ما يسمى جيل الألفية هم مواليد تقريباً (1981-1996). وهم جيل عاش المراحل الانتقالية الكبرى في العالم من التناظري الى الرقمي.. من التلفزيون والصحف الورقية الى الإنترنت والصحف الإلكترونية والهواتف الذكية.. من العولمة كفكرة الى العولمة كأسلوب حياة. باختصار هم جيل تعلموا العيش في عالمين مختلفين ثم جمعوهما في هويتهم. رافقوا ولادة التكنولوجيا والثورة الرقمية.. عرفوا البريد الورقي والإيميل.. الهاتف الأرضي والجوال ثم الذكي.
هم وسطاء بين القديم والجديد.. لم يكن لهم ذلك التأثير على كراسي الإعلام التقليدية، إذ بقيت بالنسبة لهم المصدر الموثوق للأخبار، لكن اليوم كل الأجيال بما فيها ما يسمى جيل (إكس) الذي سبق جيل الألفية بدأ الكل يسأل قبل أن يصدق أي خبر، ويبحث وراء الكراسي التي لم تعد ثابتة مُتحكمة بعقول الناس. لم يعد الإعلام العالمي التقليدي حارساً وحيداً على بوابة الحقيقة. ولم تعد مؤسساته المرجع الأعلى للمعرفة.. الجيل الجديد جيل «زد»غيّر المشهد، دخل مسلحاً بأدوات رقمية وعقلية نقدية وسؤال حاد: من قال إن الكرسي الإعلامي لا يمكن أن يتزحزح؟
جيل زد رقمي الهوية، الخبر بالنسبة لهم ليس بثاً من جهة واحدة، بل سيلاً مستمراً تتشارك في صناعته آلاف الأصوات.. لذلك عندما يتقدم الإعلام العالمي التقليدي بخطوات متأنية، يكون جيل «زد» قد جرّ معه ما سبقه من أجيال ليقطع نصف الطريق نحو الخبر.. بحثاً وتحليلاً ومقارنة.
هذا التحول يجب أن يدفع المؤسسات الإعلامية إلى إعادة التفكير في نماذجها القديمة، الجمهور لا ينتظر نشرة الأخبار يجد الخبر قبل أن يُنشر.. لم يعد كرسي المذيع الراوي الوحيد أمام كثرة الكراسي، المِصداقية وحدها التي تثبت أن مِقعده يستحق البقاء.