أميمة أحمد من الجزائر: بعد نحو ساعة ونصف على إقلاع الطائرة الخاصة ( شارتر)، أعلنت الصحراء الجزائرية حضورها بالكثبان الرملية، وقد أخذت أشكالا رائعة في عين الرائي من نافذة الطائرة، رغم علوها بأكثر من ألفي قدم.
فأثار منظرها فضول الصحفيين والسياح، ركاب الطائرة، في التقاط الصور لهذه الروعة الطبيعية، التي أبعدت خواطر السوء عن أناس لأول مرة يتعرفون على الصحراء. في صيف 2003 تاه اثنان وثلاثون سائحا أوربيا في

جبل ضوضا
متاهات الصحراء، وهم من جنسيات دول مختلفة، ألمانية، هولندا، السويد، سويسرا، تبين فيما بعد، أنهم اختطفوا على أيدي الجماعات المسلحة التي كانت تنشط في الجنوب الجزائري تحت لواء الجماعة السلفية للدعوة والقتال، الأخطر حتى الآن في الجزائر، بعدما فككت قوات الأمن الجزائرية الجماعة الإسلامية المسلحة بالكامل ndash; حسب وزير الداخلية الجزائري نور الدين يزيد زرهوني، ولن يفلتوا من قبضة قوات الأمن، فقد ألقت القبض على بعض رؤوس التنظيم، عبد الرزاق البارا، الملقب بالأعور، وكان وراء اختطاف السياح الأوربيين الاثنين والثلاثين. وتم تحريرهم على دفعتين، الأولى في مايو ( أيار ) 2003، في منطقة إليزي، حيث أطبقت قواتُ الجيش حصارها على الخاطفين، دون أن تعلن ما إذا قتلوا أم فروا، لكن السياح السبعة عشر تحرروا من الاختطاف، وعادوا إلى ذويهم، فيما أطلق سراح الخمسة عشر سائحا في الحدود المالية الجزائرية بعد خروج الخاطفين مع الضحايا، بموافقة السلطات الجزائرية، حرصا على حياة السياح.
وقد جرت مفاوضات مع الخاطفين، دون الإعلان رسميا عمن قام بالتفاوض.


تمنراست قبلة السياح
رحلة اليوم إلى تمنراست في أقصى الجنوب الجزائري، بمناسبة مهرجان السياحة الصحراوية الأول، نظمته وزارةُ السياحة للتعريف بسياحة الصحراء، ومحو ما علق في الأذهان عن محنة السياح الأوربيين، وإن كانوا السبب في ذلك، حين دخلوا بسيارتهم الصحراء دون دليل سياحي، وتبين أن بعضهم من مهربي وتجار الآثار، والسلطات الجزائرية غضت الطرف عن محاكمتهم، بعد مشقة الاختطاف، لكنها لم تتسامح مع خمسة سياح ألمان آخرين، ضللوا المرشد السياحي، واختفوا، لتعثر عليهم قواتُ الجيش متلبسين داخل متحف الطاسيلي الوطني، على متن سياراتهم وبحوزتهم أكثر من مائة قطعة أثرية، تعود إلى الإنسان الأول في الصحراء، فحوكموا، وصودرت المسروقات، ودفعوا غرامة بنحو 5 ملايين دينار جزائري، تعادل نحو 63 ألف دولار أمريكي، مع السجن النافذ لمدة شهرين.
حكاية الصحراء مع السياح حضرت على لسان جميع المشاركين في مهرجان السياحة الصحراوية الأول، حين ذهب نائب مدير متحف الطاسيلي يحكي لهم عن الكنوز السياحية في المتحف، وهو تراث إنساني كما صنفته اليونسكو، وبأسف واضح، قال : quot; من ينهب هذه الكنوز فهو لا يضر الجزائر وحدها، بل يلحق الأذى بتراث أصبح ملكا للإنسانية جمعاء، وذكر قصة السياح الألمان الخمسة كآخر عملية نهب للآثار حصلت.


جبـــل الهقار
كنا نرى صورة جبل الهقار ورجل ملثم من الطوارق على نوع من السجائر الجزائرية، وقد أخذت اسم الجبل quot; الهقارquot;، وعندما عشنا الصورة حقيقة على الطبيعة، كانت أجمل مما يتصورها خيال عاشق لجبال الصحراء، كان الجبل أجردا من الأشجار، وصخوره الكبيرة قائمة بكبرياء الصامدين، ما عدا بعض شجيرات البطم ذات الوريقات الصغيرة المغبرة الاخضرار، متناثرة بين الصخور هنا وهناك، معلنة أن الحياة ممكنة حتى في الصحراء. لكن شجرة تفاحة الصحراء، أو quot; العماية quot; كما يسمها الطوارق، لأنها تفرز حليبا من أوراقها، يتسبب في العمى، كانت أوراقها خضراء كبيرة، بأغصان كأنها تتضرع للسماء، منتشرة على حواف الطريق إلى جبل ضوضا باللغة الطرقية، (ومعناه الإبهام للشبه بينه وبين إصبع الإبهام )، حيث توجهت قافلة السيارات للاطلاع على جبل آخر ( تاجموت )، يشهد على بركان مر من هنا في الحقبة الجيولوجية الثانية، وتحدث محمد بلغول، رئيس قسم الدراسات وتنمية التراث الطبيعي، ومختص في علم النباتات quot; أن المنطقة بركانية من الدرجة الأولى معروفة عالميا، وصخور جبل تاجموت نشأت من البراكين، والمنطقة شهدت براكين في فترتين، الحقبة الجيولوجية الثانية، وفي وقت متأخر من الحقبة الجيولوجية الثالثة وبداية الحقبة الجيولوجية الرابعة quot; وما إذا نت تلك البراكين قضت نهائيا على الغطاء النباتي القديم، يقول الدكتور محمد بلغول quot; بحكم أننا في منطقة بركانية لا توجد لدينا مستحاثات تثبت وجود نبات في الماضي البعيد، والنباتات التي نراها اليوم جاءت متأخرة للمنطقة، خلال أواخر الحقبة الجيولوجية الرابعة في فترة الفلوبسان منه، وتعتبر تلك النباتات الحالية مهاجرة من الشمال ومن الجنوب، فالهقار منطقة عبور، العبور والالتقاء نظرا لتغيرات الظروف المناخية عبر الأزمنة وملايين السنين quot; ومن أين جاءت هذه النباتات القليلة ؟ فقال بلغول quot; جاءت بها طيور مرت من هنا عبر الأزمان، والبعض أتى بها الإنسان كالنخيل، وهنا نباتات متنوعة المنشأ منها السيال أو الأكاسيا، الطلح، الشيح، وغيرها من غطاءات نباتية، المتوسطية، المدارية، الصحراء السندية، فالهقار غني بالتنوع النباتي quot;
واغتنم الدكتور بلغول وجود الصحافة الدولية ليوجه نداء للمحافظة على هذه التحفة الطبيعية quot; المنطقة معروفة بحياة البداوة، بدو الطوارق، يحترفون الرعي احترافا علميا بالفطرة، متأصل لديهم وضارب بالقدم، علينا الاعتناء بهذا التراث الإنساني في إطار المعهد الدولي للحضارات البدوية في منطقة الهقار والساحل الصحراوي quot;

الصحراء جميلة.. لكنها مخيفة حقا
من يتصور نفسه وحيدا في هذه الصحراء المترامية، لا شك وأنه يشعر بالقشعريرة تجتاحه خوفا من وحوش كاسرة منتشرة في أرجائها، متنوعة بين المتوحشة الكاسرة، وأخرى برية يمكن صيدها، وقد أوضح مرشدنا فريد إيغيل حريز مدير ديوان محمية الطاسيلي الوطنية أنواع الحيوانات بقوله quot; يوجد الفهد الجزائري، وسرعته 120 كم في الساعة، وفي مناطق أخرى يوجد الغزال الجزائري، وطير الحبار، لكن للأسف، أن الصيد الجائر كاد أن يتسبب في انقراض هذه الحيوانات المحمية quot; ورفض حريز الإجابة عمن يقوم بالصيد الجائر الذي يهدد بانقراض تلك الحيوانات.
والجبل الثالث في رحلتنا، كان جبل quot; أسكريم quot; يرتفع عن مستوى سطح البحر بـ 2808 م عن سطح البحر، حيث أمضى المشاركون بالمهرجان ليلة رأس العام بجبل أسكريم، وفي قمة الجبل توجد كنيسة أقامها الأب (شارل دو فوكو) عندما تم تعيينه قسا عام 1901، يقصدها السياح الأوربيون للمباركة، وهي متحف أثري يزداد روعة مع شروق الشمس الأجمل في العالم من فوق قمة جبل أسكريم.
لم يتصور أحد شدة البرودة على هذا النحو في قمة أسكريم، كانت 12 تحت الصفر، ورغم سمك الملابس كما أوصى منظمو المهرجان، كان البرد ينفذ حتى العظم، ولولا نار الحطب التي أضاءت المعسكر السياحي مشاعل هنا وهناك لما احتمل أحد تلك البرودة، والحق يقال لم نشعر بالدفء إطلاقا، لذا أمضى الجميع ليلة بيضاء من شدة البرودة، وقد تسببت في تجمد مياه مبرد السيارات، هؤلاء سائقو السيارات الصحراء يعرفون الدواء لها، فصبوا الماء الساخن لإذابة الجليد عن سياراتهم.


ليل الصحراء.. المدهش
اللافت في ليل الصحراء، شعور المرء باقتراب النجوم للأرض وكثافتها، وكأنها أكثر عددا مما نشاهده بالمدن، حتى القمر يبدو على مرمى اليد، لكن الأجمل ذاك الغروب والشروق للشمس من أعلى قمة أسكريم، في الغروب كانت الشمس كصبية تلملم خصلات شعرها في طرحة بلدي سوداء، تعلن هبوط الليل، وفي الصباح أطلقت العنان لشلال شعرها الأشقر فوق الجبال، زاهيا براقا، معلنا يوما جديدا، كان بالنسبة لنا أول يوم من العام الجديد.
ليس هذا فحسب ما يشدك في الصحراء، بل حياة الطوارق أيضا تدعو للتأمل، قبائل ممتدة بين دول عديدة، ولهم لغة خاصة، يكتبونها بحرف التفناغ، لم نفهم شيئا منها، سمعنا الشعر فيها، والغناء، كان عصيا على الفهم، لكن موسيقاهم كانت راقصة، فرحة، لا يبدو فيها حزن رغم قسوة الطبيعة، وهو أمر يدعو للدهشة، واعتقدنا أن الفرح سلاح لمقاومة قسوة ظروف الصحراء، لكن شيخا من شيوخ الطوارق حدثنا سبب الفرح، بأن المرأة الطرقية منبع الفرح، فهي تحظى بمكانة مرموقة في مجتمع الطوارق، لها تعود الكلمة الأولى والأخيرة، وهــي ريحانة الحياة عندهم، ولم تحظ بها المرأة قبل الإسلام في الجزيرة العربية ؟ ثم لماذا الرجال يتلثمون، والنساء سافرات الوجه؟
قد تبدو الحكاية خرافية، لكنها تعطي دلالة على عصر أمومي كان هنا، ولا زالت آثاره حتى الآن، رغم دخول الإسلام لهذه الصحراء.
يروى أن غزاة دهموا مضارب الطوارق، فسلبوا الإبل والماشية والمال، وأسروا الرجال، فبقيت النسوة مع كبير القوم، حرصن على إخفائه عن أعين الغزاة، فلم يطقن الأمر، فلحقن بالغزاة، وجرت معركة ضروس بين الطرفين، انتصرت فيها النساء، فاسترددن المال والحلال، وما كان مع الغزاة، وفككن أسر الرجال، واقتدن الغزاة أسرى إلى كبير القوم الذي ينتظرهن بالخيام مع أطفالهن، حيث حكم على الرجال باللثام لهزيمتهم، والنساء بسفور الوجه.
رجال الطوارق يعتبرونها خرافة لا أساس لها من الصحة، بينما النساء يضحكن بثغر يواري حقيقة مضى عليها دهر طويل، لم يعد التمييز فيها بين الحقيقة والخيال. لكن ظلالها ما زالت قائمة، في حقوق المرأة عند الطوارق.
ومن يزور تمنراست.. والطوارق، وما يتميزون به من سعة الصدر وطول البال خلاف الجزائريين في الشمال القلقين الغضوبين، يبدو أن سعة الصحراء تعطي سعة لصدور ساكنيها....لا بد أن يمتلكه الحنين للعودة إليها مرة أخرى، خاصة في أعياد رأس السنة، حيث تعج بالسياح من كل أصقاع العالم، يستبدلون حياتهم الرغيدة في أوربا بحياة المخيمات الصحراوية وركوب الجمال سفينة الصحراء. فأهلا وسهلا في صحراء الجزائر الجميلة حيث الطوارق وحكاياتهم الممتعة.