توجهات المملكة العربية السعودية الخارجية في عهد خادم الحرمين الشريفين
قراءة في خطب وكلمات الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود

ورقة مقدمة لبرنامج اللقاء العلمي السادس للجمعية التاريخية السعودية، ولندوة جمعية تاريخ وآثار دول مجلس التعاون الخليجي المنعقدة برعايةدارة الملك عبد العزيز بالرياض بمناسبة احتفال المملكة بذكرى البيعة في الفترة من 22 – 25 / 11 / 1422هـ
1422 – 1423هـ


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة : ¨
اتفق علماء السياسة الشرعية في الإسلام على أن الخلافة هي حراسة الدين وسياسة الدنيا، ولم يختلف اللغويون عنهم في تعريفهم للكلمة، لكن الإشكال ـ إن جاز التعبير ـ هو في التباين الاصطلاحي الذي عاشته السياسة نفسها، فهي وإن كانت عند ابن منظور اللغوي بمعني القيام على الشيء بما يصلحه، فإنها في قواميس علم السياسة الحديثة تعني فن التعامل بالممكن، ولا شك فإن البون شاسع بين التعريفين، فالأولُ مرتكز على قاعدة الإصلاح بدون مواربة أو تَحيل، والآخر مستند على المراوغة، فتبنى القرارات، وتوجه الخطى بحسب ما تقتضيه المصالح، دون اعتبار للقيم، فلا عهود ولا مواثيق ثابتة يمكنها أن تحكم علاقة البشر بعضهم ببعض، وهو ما يتعارض مطلقا مع القواعد الرئيسة لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، وبين الدولة وجاراتها من جهة ثانية بحسب ما قعده الفقهاء الشرعيون في الإسلام المنطلقين في ذلك من ثوابت دينية راسخة، وقيم أخلاقية ضاربة بأوتادها في أعماق الزمن ؛ ولعل الاختلاف في المصطلحين هو ما أوقع الكثير من علمائنا ـ الذين لاكوا السياسة بأفواههم، وخاضوا تجاربها ـ في حالة من الإحباط النفسي، الذي نستشفه من استعاذة الشيخ محمد عبده رحمه الله من السياسة بقوله : ( أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن ذكر السياسة، ومن كل بلد تذكر فيها السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس ).
لقد تطورت المفاهيم السياسية، وأخذت صيغا متعددة خلال القرن الميلادي المنصرم، فمن مفهوم شمولي إلى آخر فردي، ومن طابع شيوعي صلف يذيب الفرد لمصلحة الجماعة، ويحرك الجماعة لمصلحة الفرد، إلى منهج رأسمالي يكرس السلطة في المال، ويحرك المال لخدمة السلطة، وغير ذلك من المفاهيم التي انتشر دعاتها في بقاع العالم، وكثر أبواقها في مختلف الوسائل الإعلامية، آخذين في تدعيم وترجيح أفكارهم ومن ثم تثبيتها على أرض الواقع بكل السبل والوسائل المشروعة وغير المشروعة.
في هذا الجو السياسي القاتم، وخلال هذه الحقبة التاريخية، تكونت الدولة السعودية الثالثة ( المملكة العربية السعودية ) بقيادة الملك المؤسس الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الذي وجد نفسه جزءا من الصراع الدولي في ذلك الوقت بكل مشتقاته الفكرية، ومتغيراته العسكرية، فتمكن ببصيرته الثاقبة، ومرجعيته الصافية، من أن يشق له طريقا سياسيا مغايرا لمقاييس تلك الفترة المادية، أساسها ـ حسب تعبيره يرحمه الله ـ " الدين والمروءة والشرف "، مؤمنا بقضايا الأمة، عاملا على تحقيقها، لا لغايات دنيوية في نفسه، ودون النظر إلى الحالة التي سيكون عليها حين ذاك، وإنما لهدف أسمى من ذلك، قوامه المصلحة أولا وثانيا وثالثا، وليس أدل على ذلك من قوله : " إني على استعداد لأن أكون كجندي بسيط أجاهد في سبيل العرب، وتوحيد كلمة العرب، وتأسيس الوحدة بين العرب "، ولذلك فإنه لم يكن من صفات هذه النفس التواقة إلى الوحدة والإخاء الرغبة في السيطرة على الآخرين لكونها لا تأبه بالسلطة لذات السلطة، بل ترغب في السلطة لخدمة من وراءها من الضعفاء والمساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا سبيلا، ولعل مما يؤكد ذلك قوله يرحمه الله في إحدى المناسبات : " لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس أحب إلي من السلم والتفرغ للإصلاح "، بهذا النهج، وعلى هذه الأسس قامت المملكة العربية السعودية، وتحدد خطابها السياسي الخارجي، وعمل خلفاء الملك المؤسس عبد العزيز يرحمه الله على الالتزام بها كأساس حيوي في جميع تعاملاتهم السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وإذ نناقش اليوم منطلقات السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية خلال هذا العهد الميمون ـ عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله ـ ليتحتم علينا الأخذ بالحسبان لتلك الأسس التي قامت عليها المملكة في بناء علاقاتها الخارجية، وفي توجيه خطابها السياسي بصورة عامة، المرتكزة على ثوابت العقيدة الإسلامية السمحة " التي لم تفرق بين أحد وآخر، ولا بين جنس وآخر، محققة عدالة السماء التي أنزلها رب العزة والجلال على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " والمستندة على قاعدتي الحق والعدل، كما عبر بذلك خادم الحرمين الشريفين في العديد من خطاباته للأمة الإسلامية، والآخذة بعين الاعتبار مصالح كافة الدول والشعوب، والمنطلقة من الحرص المتوازن على تفهم تلك المصالح، وإدراكها، وعدم تجاهلها ؛ بالإضافة إلى ذلك فإنه يتحتم علينا أيضا البحث عن الوثائق الرسمية المبينة لطبيعة تلك العلاقات ومرتكزاتها.
ومع تعدد الوثائق الرسمية التي يمكن الاستشهاد بها على طبيعة توجهات المملكة العربية السعودية السياسية خلال هذا العهد الزاهر، إلا أنني سأركز خلال هذه الورقة على ما عبر به جلالته في العديد من خطاباته الدولية والإقليمية والمحلية كوثيقة رئيسة لمعرفة الرأي السياسي للمملكة إزاء مختلف القضايا الدولية وبخاصة فيما يتعلق بقضية الوحدة العربية الإسلامية، والقضية الفلسطينية، معتمدا في ذلك على ما قامت به دارة الملك عبد العزيز برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض ورئيس مجلس إدارة الدارة من مجهود كبير في جمع ونشر الخطب الملكية لقادة هذه البلاد كمصدر أساسي لهذه الورقة، ومستعينا بالدرجة الثانية بمختلف المراجع التي تناولت الموضوع بصورة أو بأخرى.

منطلقات الوحدة العربية والإسلامية :
نستطيع القول بكل فخر واعتزاز بأن المملكة العربية السعودية هي دولة التوحيد الأولى التي نشأت خلال القرن الميلادي المنصرم، ولا غرابة في ذلك فهي قد ارتكزت في منطلقاتها الفكرية والسياسية على قاعدتي التوحيد والعدل وذلك منذ الوهلة الأولى التي تكونت فيها على يد الإمام محمد بن سعود المتوفى سنة 1179هـ، وبذلك فما أن عمل حكامها بعدئذ على تأكيد أواصر الوحدة والإخاء حتى عاد للجزيرة العربية شملها بعد شتات دام لأكثر من ألف سنة على أقل تقدير، غطت خلالها في سبات عميق، وتاه سكانها في صراع مرير، منذ أن انتقلت عاصمة الخلافة الإسلامية من أرضها إلى بلاد الشام والرافدين وصولا إلى الأستانة عاصمة العثمانيين، الأمر الذي انعكس سلبا ليس على طباع قاطنيها السلوكية وحسب، بل امتد ليشمل أثره إلى كل من فكر باختراق سكونهم الساحق بحثا أو زيارة أو حجا، وبالتالي فإنه ما إن قامت هذه الدولة الفتية حتى أخذت على عاتقها العمل على إعادة وحدة الصف العربي في أرض العرب الأولى، انطلاقا من المبادئ الإسلامية الحاضة على ذلك مصداقا لقوله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ( آل عمران / 103) وقوله { ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ( الأنفال / 46 )، فكان أن عادت الروح إلى صاحبها، وتفتقت العقول بخيراتها، وانطلقت الأنفس بمودة ورحابة صدر.
إن العمل على تحقيق الوحدة العربية والإسلامية ليس شعارا إعلاميا ترفعه حكومة المملكة، وليس ساترا تعمل من ورائه لأغراض شخصية أو مادية، بل هو مبدأ إيماني أساسه العمل بروح الإسلام، روح الفضيلة والخلق القويم، وقد تمثل ذلك منذ الوهلة الأولى في الكثير من خطابات قادتها السياسيين وعلى رأسهم الملك عبد العزيز رحمه الله الذي أهاب بصدق وإيثار بضرورة وحدة المسلمين بقوله : " أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين، وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل ذلك "، وأضاف " أنا عربي، وأحب عز قومي، والتأليف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وأبذل في ذلك مجهوداتي، ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب، وما يوحد أشتاتهم، ويجمع كلمتهم "، كان ذلك ولا زال هو ديدن العمل السياسي الوحدوي لدى صناع القرار في هذه البلاد الكريمة دون أن يكون هناك رغبة في التسلط على الآخر، أو فرض إجراء قسري على توجهه الوحدوي، انطلاقا من قناعتها الثابتة بأن الوحدة خيار وليس أمر، وهو ما انعكس بعد ذلك على كل ردود أفعالها السياسية والإعلامية في لحظات التوتر العربي ـ في فترة الخمسينات والستينات وحتى فترة التسعينات من القرن المنصرم ـ المتسمة بالعقل، الحريصة على لملمة الجراح والبعد عن أي مسلك قد يوجب الندم يوما من الأيام، مقتنعة بأن الإعلام أمانة في يد راعيه، يوجهه للخير والإصلاح، وانطلاقا من هذه القناعة السامية لم تنزلق وسائل إعلام المملكة فيما انزلقت فيه الوسائل الإعلامية العربية الأخرى خلال فترات التوتر العربية السابقة الذكر، بل حافظت على قيمها وأخلاقها، وعلى إيمانها بوحدة الصف العربي الذي لن يتأتى له ذلك في حال الانغماس في ردود الأفعال الصاخبة، وما أجمل وأحكم قول الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله حال رده على سؤال مندوب جريدة اللومند الفرنسية عن رأيه في تهجم الرئيس عبد الناصر عليه معطيا ـ حسب رأي معالي الأستاذ جميل الحجيلان ـ درسا في التعفف والضبط الكريم للنفس حين رد بقوله : " نحن إخوان وعلى الأخ أن يتحمل تجاوزات أخيه " ؛ بهذا المنطق واجه حكام المملكة ابتداء من عهد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود يرحمه الله وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله جميع المهاترات اللفظية الموجهة إليهم كحكومة وشعب، ومن خلال هذا المسار ارتسمت منطلقات العلاقات الخارجية للمملكة العربية السعودية بصورة دائمة، وهو ما أكده في مرات عديدة خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله الذي سار على خطى والده في تعميق أواصر الوحدة العربية والإسلامية.
لقد شغلت الوحدة العربية والإسلامية حيزا كبيرا في تفكير ووجدان الملك فهد بن عبد العزيز، فدعا إلى تفعيلها وفقا للأسس السليمة في كثير من المحافل الدولية والإقليمية والمحلية، مؤكدا على أن المملكة ما هي إلا واحدة من دول أمة الإسلام " هي منهم ولهم " " يهمها ما يهم العرب والمسلمين، وتحرص على تضامنهم وجمع كلمتهم، وتسهم بكل طاقاتها فيما يعود عليهم بالخير "، مشيرا في الوقت نفسه وبشجاعة وفطنة في أكثر من موضع إلى أن الحواجز التي تعيق الأمة العربية والإسلامية عن إتمام وحدتها بالصورة المطلوبة ما هي إلا نتيجة خوف عدد من الدول الكبرى على مصالحها الذاتية، لافتا النظر إلى أنه من الضروري " أن تبنى صداقاتنا مع الدول المختلفة على أساس الند للند وليس على أساس الخضوع والخنوع ".
وانطلاقا من هذا المبدأ القائم على المساواة، المنبثق من قواعد الحق والعدل، فقد أهاب خادم الحرمين الشريفين بالدول العربية والإسلامية استبدال اعتمادها على الدول الكبرى الشرقية والغربية في تثبيت أطرها السياسية بالاعتماد على الله ثم على تكاتف المسلمين والعرب بعضهم ببعض، والإيمان بالقدرات العربية، والارتكاز على الثقافة الإسلامية المشتركة، مؤكدا على حقيقة " النتائج والإنجازات العظيمة التي يمكن تحقيقها بالعمل المشترك إذا قام على أساس الثقة والإيثار والإخلاص لشعوبنا وأهدافنا العليا " حسب قوله يحفظه الله.
لقد أدرك الملك فهد بن عبد العزيز منذ الوهلة الأولى بأن الوحدة الحقيقية لا تبنى بالأماني والتمنيات، كما لا يكتمل عودها بالنفاق والمداهنة، بل تحتاج إلى نية صافية، وعمل دؤوب يحركه الإيمان الكامل بالقضية والهدف، الداعي إلى التعامل بشفافية، والمكاشفة الصادقة بهدف تصفية القلوب والأنفس، والوصول إلى نبذ مجمل الخلافات، من واقع " القدرة على مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والعالمية بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة "، وهو ما سيؤدي إلى توثيق روح العمل الجماعي الذي يعد " الصفة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية، والداعم لها في مواجهة التحديات " حسب قوله.
وانطلاقا من ذلك فقد حرصت المملكة على تحقيق أهداف ومقررات القمم الإسلامية والعربية، وعملت على الالتزام بمواثيق الجامعة العربية، مع سعيها الدؤوب لإقرار السلام في المنطقة، واستتباب الأمن بها، جاهدة في المحافظة على الصلات القوية الرابطة بينها وبين أشقائها من الدول العربية والإسلامية والصديقة القائمة على أساس واضح من الاحترام المتبادل، سالكة مبدأ التشاور بكل شفافية وصراحة ووضوح مع مختلف الدول العربية والإسلامية في الأمور المتعلقة بالقضايا المصيرية للأمة، دون أن تنفرد بقرار، أو تخرج مغردة خارج السرب، لإيمانها بأن يد الله مع الجماعة.
وفي هذا الإطار فقد عملت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد ـ المغفورله بإذن الله ـ الملك عبد العزيز آل سعود على دعم التضامن الإسلامي بصوره المختلفة من واقع دعوته المبكرة سنة 1345هـ الموافق 1926م للعلماء ورجال الأمة لعقد مؤتمرهم الإسلامي الأول في القرن العشرين الميلادي، ولم يتقاعس خلفاءه من بعده عن حمل راية هذه الدعوة وصولا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الذي أخذت المملكة في عهده وبتوجيه مباشر منه في " دعم كل جهد إسلامي جماعي فيه وحدة الكلمة والموقف " عبر آليات منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي الواضحة، واستنفرت من أجل ذلك كل طاقاتها لحث " جميع الأشقاء للعمل على تقوية دور المنظمة والرابطة وأثرها في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في البلاد الإسلامية ".
وإيمانا منها بروح التكافل الإسلامي، وتفعيلا منها لهذه الدعوة الصادقة، فإن المملكة لم تستأثر بمواردها المالية على نفسها، ولم تقصرها على شعبها، بل عملت على مساعدة مختلف الدول الإسلامية للنهوض بإنسانها، وتطوير ملكاته وقدراته بالشكل الذي يسهم في تعميق الوحدة العربية الإسلامية، إدراكا منها لأهمية توافق التطور الاقتصادي والاجتماعي كأساس لنجاح أي وحدة يراد إتمامها وإذا كان ذلك هو ما قررته المجموعة الأوربية مؤخرا لتفعيل وحدتها الاقتصادية ومن ثم السياسية والاجتماعية، فإن المملكة قد أدركته منذ فترة مبكرة، وعملت على تحقيق ذلك منطلقة من قناعتها الدينية الراسخة، وقيمها الخلقية الثابتة، وعليه فقد بلغت حجم المساعدات السعودية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي خلال فترة حكم خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله نحو ( 104 مليار ريال سعودي )، وبلغ حجم مساعدات المملكة خلال هذه الفترة للدول النامية نحو ( 55 مليار ريال سعودي )، بالإضافة إلى ذلك فقد بلغت التزامات الصندوق السعودي للتنمية في الفترة من 1974م إلى 1990م حوالي ( 23.16 ألف مليون ريال سعودي ) لتمويل 319 مشروعا في أكثر من 60 بلدا، ووصل حجم المساعدات المالية للدول الإسلامية في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية في الفترة من 1392هـ وحتى عام 1410هـ أكثر من ( أربعة آلاف مليون ريال سعودي )، تجدر الإشارة هنا إلى أن جميع المساعدات المالية السعودية قد توجهت لبناء الإنسان ونمائه ليسهم إسهاما إيجابيا في خدمة أمته والإنسانية، فتركزت تلك المساعدات على بناء المساجد والمدارس والجامعات وغيرها من أعمال الرعاية والاهتمام المتفق عليه دوليا.
وفيما يتعلق بالعلاقات العربية العربية، والعربية الإسلامية، فقد سارت المملكة منذ عهد المؤسس الملك الراحل عبد العزيز يرحمه الله وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله على سياسة الوفاق، والحوار في مختلف القضايا الخلافية للوصول إلى النتائج المرضية للطرفين استنادا للقاعدة الشرعية التي تنص على أنه ( لا ضرر ولا ضرار )، فنبذت الحرب، وحضت على السلام، وكرهت إراقة الدماء بدون وجه حق، والمزايدة والخضوع إلا لله عز وجل، ودعت إلى احترام السيادة لكل دولة، معلنة بصفة دائمة رفضها القاطع للتدخل في تقرير الشؤون الداخلية لكل دولة.
واعتبرت في الإطار نفسه أن كل خلاف عسكري ينشب بين دولتين جارتين إسلاميتين على وجه الخصوص يصب في مصلحة أعداء الأمة الإسلامية ولهذا فقد بادرت المملكة إلى إرسال الوسطاء السياسيين، وعملت على دعم توجهات الدول الصديقة الرامية إلى تعزيز السلم في المنطقة، وصرحت في أكثر من محفل دولي وإقليمي ومحلي برغبتها في أن يسود الأمن والأمان ربوع العالم ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، وعليه فقد عبرت المملكة عن رفضها القاطع للحرب بين الجارتين العراق وإيران التي امتدت قرابة ثمان سنوات، وكرهها لاستمرارها، ورغبتها في تغليب العقل والحكمة، مصرحة بذلك على لسان قادتها وعلى رأسهم الملك فهد بن عبد العزيز الذي أعلن عن رغبته تلك بصورة متكررة في العديد من المحافل الدولية والإقليمية والمحلية، ومن ذلك ما ورد في كلمته التي وجهها للأمة العربية بمناسبة انعقاد القمة العربية الثانية عشر في فاس بالمغرب عام 1402هـ/1982م بقوله : " إننا نكره أن تبقى هذه المجزرة إلى الأبد، وإننا نفضل السلام واحترام كل طرف للآخر... لا نريد إلا الاستقرار لهذين البلدين، لا نريد إلا تحكيم العقل وتحكيم المنطق، لماذا تكون هذه المجازر ؟ إنها خسارة على الأمة الإسلامية، والمستفيد هو العدو ".
وبنفس الروح الشفافة، والعقل الحكيم، والرغبة الصادقة في تعزيز الوحدة العربية، خاطب الملك فهد بن عبد العزيز الشعب اللبناني الغارق في دماء التعصب والفرقة، ليس بصفته زعيم من زعماء الأمة العربية السياسيين، وليس بصفته راعيا للحرمين الشريفين قبلة المسلمين ومرقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وحسب، ولكن بصفته أخ مسلم عربي يتأثر لتأثرهم، فيضعف بضعفهم، ويقوى لقوتهم، مصداقا لقول الرسول الكريم ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، فناشدهم بكل القيم والأعراف والقوانين أن يوقفوا سفك دمائهم، دماء الأطفال، والنساء، والثكالى بقوله : " أخاطبكم اليوم باسم جميع ما يربط بيننا من روابط العقيدة والدم والعرق واللغة والتاريخ.. أخاطبكم من أعماق قلب عربي أدمته المأساة الأليمة التي حلت بأبناء الأمة العربية أن توقفوا سفك الدماء.. سؤال يتردد كل صباح ومساء سؤال حائر يتكرر وهو : لماذا يقاتل العربي أخاه العربي ؟ لماذا يحرق العربي أرضه، ويشتت أهله، وينسف داره ؟؟؟.. ماذا نقول للعالم الذي يراقب صراع الأشقاء الدامي ؟ كيف نقنع دول العالم بعدالة قضيتنا ؟ كيف نطالبها الوقوف معنا لاسترداد أرضنا، وحقوقنا، وأوطاننا، إذا نحن لم نستطع أن نعدل بين أنفسنا لنصرة قضايانا.. أيها الاخوة الأشقاء، أليس جدير بنا أن ندخر شبابنا، ونحتفظ بسلاحنا، وقدراتنا، وقوتنا، لمواجهة أعداء الأمة العربية والإسلامية في معركة المصير.. لا أخاطبكم اليوم من موقع مسؤولياتي كخادم للحرمين الشريفين فحسب، ولكني أخاطبكم بوصفي الأخ العربي الشقيق لكل فرد منكم، أشارككم الأفراح والأتراح، وأشاطركم الآلام والآمال، وأتطلع وإياكم إلى يوم النصر على خطى وحدة المصير "، ولم تكتف المملكة بذلك، بل إنها عبرت في أكثر من موقع بأنها لا تؤيد فئة على أخرى، ولا توافق على تصنيف المجتمع إلى يمين ويسار، لكونها تؤمن بأن المسلمين اخوة في رحاب شريعة سماوية سمحة، وأوضحت المملكة بأنها حريصة على وحدة لبنان أرضا وشعبا وأنه لن يتأتى لها ذلك طالما ضلت مسرحا لتدخلات الغير، وحرصت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين على جمع الفرقاء اللبنانيين في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية للتحاور والتفاهم على صيغة موحدة تجمع الشعب اللبناني عرفت باتفاقية الوفاق الوطني سنة 1989م، دون أي تدخل من مختلف القوى العربية والدولية، بما فيها المملكة التي اقتصر دورها على الضيافة وتوفير المكان لا غير.
وحول الحرب الصومالية فقد أكد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز سعي المملكة بكل ما تستطيع لإيقاف مظاهر التوتر، من خلال عدد من الاتصالات بين الأطراف المتنازعة بهدف الوصول إلى صيغة مرضية يلتزم بها الجميع، وقامت المملكة ـ من أجل ذلك ـ بجمع الفرقاء في مدينة جدة عام 1412هـ، وليس ذلك فحسب، بل أرسلت كما هي عادتها مساعدات تموينية وبشرية للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية والاجتماعية لأبناء الشعب الصومالي كما صرح بذلك خادم الحرمين الشريفين في كلمته التي وجهها إلى حجاج بيت الله الحرام سنة 1414هـ.
ولم يختلف الموقف السعودي في مشكلة اليمن الناتجة عن احتدام الحرب الأهلية بين القوى اليمنية عن المواقف السابقة المنبثقة من قواعد العدل والحق، المستندة لحيثيات الشريعة السمحة، والداعية إلى تحكيم المنطق والعقل للوصول إلى حلول تتفق عليها القوى المتصارعة كما وضح ذلك الملك فهد في مرات عديدة، ولاسيما وأن استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليمن من أولويات القيادة السعودية.
موقف المملكة من القضية الفلسطينية :
لن أكون مبالغا بالقول بأن القضية الفلسطينية بكل حيثياتها القاضية باسترجاع المسلمين للقدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، واسترجاعهم لحقوقهم المعنوية والمادية وغيرها من المتعلقات الإنسانية والقانونية لهذا الشعب المسكين، كانت ولا زالت الشغل الشاغل لقادة المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز وحتى الوقت الراهن، حيث أنها ما فتأت تعلن عن إيمانها العميق بضرورة استرجاع الفلسطينيين لحقوقهم التاريخية والقانونية والسياسية في الكثير من خطاباتها الدولية والإقليمية والمحلية، عاملة على تحقيق ذلك بصمت، منطلقة من ثوابتها الدينية، وعروبتها الصادقة، وهو ما أكده الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود في حديثه سنة 1946م لوفد اللجنة العربية العليا للبحث في قضية فلسطين بقوله : " لا زلت أضع قضية فلسطين في قلبي، فأعمل لخيرهم، وأرجو الله أن يوفقني لما فيه الحق " وأضاف في حديثه لهم بأنه لا يرغب في الإعلان عن مجهوداته من أجل عودة الحقوق لأصحابها، مؤكدا أن طريقته تكمن في العمل الصامت والذي ستكشف عنه الأيام حين يُسمح بإخراج الرسائل المتبادلة في ذلك مع زعماء العالم حسب قوله يرحمه الله وبالتالي فقد جعل من ذلك منهجا اتبعه من بعده خلفاءه في تعاملهم مع الكثير من قضايا الأمة العربية والإسلامية المصيرية.
لقد حملت المملكة على عاتقها مهمة توصيل الصوت العربي الفلسطيني إلى أسماع العالم، ومهمة إثبات الحق العربي في أرض فلسطين، عبر مختلف القنوات الدبلوماسية، ابتداء بالملك المؤسس عبد العزيز الذي خاطب الرئيس الأمريكي روزفلت في رسالته الموجهة إليه سنة 1945م بقوله : " إن حق الحياة لكل شعب في موطنه الذي يعيش فيه حق طبيعي ضمنته الحقوق الطبيعية، وأقرته مبادئ الإنسانية، وأعلنه الحلفاء في ميثاق الأطلنطي، وفي مناسبات متعددة، والحق الطبيعي للعرب في فلسطين لا يحتاج إلى بيانات، فقد ذكرت غير مرة لفخامة الرئيس روزفلت والحكومة البريطانية أن العرب هم سكان فلسطين منذ أقدم عصور التاريخ، وكانوا سادتها، والأكثرية الساحقة في كل العصور.. "، واستطرد جلالته مدللا بالبراهين التاريخية المؤيدة لقوله، ومحللا لما جاء في التوراة العهد القديم من روايات حول ما سبق ؛ ولم يكتف بذلك، بل إنه عبر في مناسبات متعددة عن رفضه لقرار التقسيم الصادر سنة 1937م، مؤكدا للبريطانيين بأن ذلك يتنافى مع الصداقة التي تنشدها بريطانيا مع العرب والمسلمين، ومؤيدا في الوقت ذاته بالسلاح والمال الثورة العربية في فلسطين، وداعيا إلى منع استمرار الهجرة اليهودية لها، وتأمين استقلالها.
ولم يختلف موقف خلفاء الملك عبد العزيز من القضية الفلسطينية عن موقفه الحازم بصورة عامة، بل تصاعد رأيهم بحسب تطور الأحداث السياسية والعسكرية بالصورة التي يصفها الملك فيصل رحمه الله " بأنها القضية التي لا مثيل لها في التاريخ ".
ولقد حرصت المملكة منذ الوهلة الأولى على أن يكون للفلسطينيين الدور البارز في مناقشة قضيتهم، وتمثيل مجتمعهم التمثيل الصحيح، وترك حرية الاختيار لهم لتقرير ما فيه المصلحة الكاملة لشعبهم بالشكل الذي يكفل لهم كامل حقوقهم الشرعية ؛ مع دعمها المتواصل لهم في جميع المحافل الدولية، ومناشدتها لدول العالم كافة المحبة للحرية والسلام، والداعية إلى مبادئ العدل والمساواة لأن تنصف الشعب الفلسطيني المظلوم من صلف الغطرسة الصهيونية، بحسب ما ورد في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله الذي وجهه إلى حجاج بيت الله الحرام عام 1409 هـ، ولم تكتف المملكة بذلك، بل أيدت وبشكل مباشر الانتفاضة الفلسطينية الباسلة الهادفة إلى لفت أنظار العالم إلى الممارسات القمعية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، داعية على لسان قائدها الملك فهد إلى حاجة الانتفاضة والقضية الفلسطينية الماسة إلى موقف عربي وإسلامي ودولي موحد وملتزم تجاهها، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنه من حق الشعب الفلسطيني على المجتمع الدولي أن يهيئ له جميع الإمكانات، والسبل الكفيلة لاسترجاع حقوقه المشروعة على أرض فلسطين، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس التي أكد خادم الحرمين الشريفين وفي مناسبات عديدة موقف المملكة الواضح والثابت منها، والقاضي بحتمية عودتها إلى أهلها الشرعيين، مشيرا إلى " أن السلام الحقيقي لن يتأتى إلا بعودة الحقوق لأصحابها وعودة مدينة القدس لأهلها الشرعيين ".
لقد أكدت المملكة بصورة دائمة على لسان صانع قرارها الأول الملك فهد يحفظه الله بأن " السلام كل لا يتجزأ، وبأنه حق لا يجب أن تستأثر به فئة دون أخرى، وبأنه لا يقوم ولا يدوم إلا إذا تأسس على العدل "، لافتتا النظر العالمي إلى أنه ـ أي السلام ـ " ليس مرهونا بالوضع الراهن، ولا هو استسلام للقوة والقهر"، ولذلك فقد دعت المملكة بصورة دائمة جميع الدول والمنظمات المحبة للسلام لدعم الرغبة التي أجمع عليها ملوك ورؤساء الدول العربية في مؤتمر فاس عام 1982م المؤيدة لمقترحات الملك فهد الهادفة إلى إحلال سلام عادل وشامل يضع حلا لمحنة الشعب الفلسطيني، بإقامة دولتهم الشرعية على أرض فلسطين وعاصمتها القدس، وتنص المقترحات المقدمة من جلالته على الآتي :
انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م في الشرق الأوسط.
إزالة جميع المستوطنات الإسرائيلية من الضفة الغربية وجميع الأراضي المحتلة الأخرى.
منح حرية العبادة لجميع الطوائف الدينية في الأراضي المقدسة.
الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة والتعويض لمن لا يرغب في العودة.
وضع الضفة الغربية وقطاع غزة تحت وصاية الأمم المتحدة مدة انتقالية تستمر أشهرا قليلة.
إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أن يكون القطاع الشرقي من القدس عاصمة لها.
الاعتراف بحق جميع دول المنطقة في العيش بسلام.
ضمان أي اتفاق من قبل الأمم المتحدة أو بعض أعضائها.
وكان من جراء ذلك أن أيدت المملكة بعدئذ صيغة السلام التي وقعها الفلسطينيون مع الإسرائيليين في القاهرة عام 1994م التي بموجبها تسلمت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة السيد ياسر عرفات مقاليد السلطة في غزة وأريحا، متطلعة بذل المزيد من الجهود في سبيل إكمال مسيرة السلام وصولا للهدف المنشود.


الخاتمة :
وبعد أيها الحضور الكرام، فإن الحديث عن توجهات المملكة العربية السعودية الخارجية ومنطلقاتها لهو أمر جلل، ويحتاج إلى المزيد من التأمل، للوصول إلى حقيقة تلك الأطر، وتعريفها بالصورة الواضحة، ومن ثم إخراجها بالشكل المطلوب الذي يتوافق مع جوهرها الناصع ؛ وأرجو أن أكون قد وفقت في إبراز بعض من هذه الأطر، راجيا من الله التوفيق، ومؤملا منكم حسن الملاحظة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أ / زيد بن علي عبد الكريم الفضيل