موسى الخميسي من روما: تبدأ هذه الأيام الدورة الثانية من موسم كرة القدم التراثية الذي تحتضنه مدينة عصر النهضة فلورنسا. ففي كل عام وفي نهايات شهر أغسطس( آب) تبدأ الاستعدادات ويتم اختيار الساحة المفضلة التي يشترط ان تكون احدى الساحات العامة بوسط مركز المدينة التاريخي للمدينة، وقد استقرت الآراء خلال السنوات الأخيرة على ساحة سانتا كروتشا( الصليب المقدس) التي تملأ بالتراب الأحمر\ بعد ان يتم نصب المدرجات الحديدية المتحركة المخصصة لجلوس المشاهدين، فتخرج الساحة على شكل حلبة صراع حقيقي يتقابل بها الخصوم وكأنهم يخوضون معركة حقيقية من اجل الفوز.
يعتقد أهالي فلورنسا بان لعبتهم الكروية المفضلة هي الأساس والأصل للعبة كرة القدم المعاصرة بعد ان طورها وشذبها الإنكليز، الا ان الأصول حسب اعتقاد المؤرخين تعود للكرة التراثية الفلورنسية ولهذا السبب بالذات يتشدد الإيطاليون في الحفاظ على هذه اللعبة ضد أي تغير لربما يصيب هيبتها وينتزع عنها خصوصيتها.

ولادتها
ولدت" كرة القدم التراثية" أبان سيطرة شارل الخامس وقواته الفرنسية على جمهورية فلورنسا المستقلة في القرن الخامس عشر، اذ حاول ان يسحق بجيوشه تلك الخصوبة لذلك العصر الذي مثل افتتاحا لنهضة جديدة ليس في تاريخ الفن الإنساني وانما اتسع ليشمل الاكتشافات العلمية في مجال الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، كما مهد الطريق لدراسة الطبيعة بكل إبعادها من خلال اكتشاف قوانينها، وأصبحت مدينة فلورنسا في ذلك العهد مسلحة بكل إبعادها من خلال اكتشاف قوانينها، كما أصبحت في ذلك العهد مسلحة بالأفكار والآراء الجديدة ومتحررة من كل القيود القديمة فازدهرت بها الحرف اليدوية وتعددت وتنوعت بها سبل الحياة والتقاليد الطقسية والاحتفالية بشتى أنواعها واتجاهاتها.
وقد اعتبر أهالي فلورنسا هذه اللعبة احدى هبات المدينة لشفيعها القديس سان جوفاني باتيستا، إضافة الى كونها تحدي لهيمنة القوات العسكرية الفرنسية المحتلة حيث تبرز الفرق الكروية مشاعر حقدها واستيائها من خلال التجمعات الجماهيرية الكبيرة التي تحضر عادة للمشاركة بالاحتفال الكرنفالي الذي يصاحب اللعبة.

لكل حي فريق
ولكل محلة من محلات المدينة فريقها الخاص، وهذا الفريق له شعاراته الخاصة وأعلامه وألوان ملابسه المميزة، كما ان لكل محلة من المحلات التي تشكل بنية المدينة الكلية تختار أعضاء فريقها من الشباب الذين يتمتعون بالحيوية والقوة واللياقة الجسمانية، إضافة الى إتقان قواعد اللعبة وأصولها مع ان المشاهد العادي يشعر بان المباراة التي عادة ما تتسم بالخشونة المبالغ فيها خالية من أي نظام.
كل فريق من الفرق المشاركة يتكون من 27 لاعبا يتوزع هؤلاء على ثلاثة خطوط رئيسية هم خط الدفاع والوسط والهجوم، ويضاف اليهم رأس الفريق الذي هو حامي الهدف الذي يكون بالعادة رئيس الفريق.
ما ان تبدأ صفارة الحكم بإعلان بدء المباراة حتى يختلط الحابل بالنابل فلا يظل خط وسط ولا هجوم ولا دفاع، ذلك لان قواعد اللعبة التقليدية تسمح بالضرب والركل والقفز على الآخرين والذي يصفق له الجمهور طويلا، فتنعدم تلك اللحظات الشاعرية التي عادة ما نراها في لعبة كرة القدم التقليدية، ذلك لان اللعبة التراثية الفلورنسية تتسم بكل مواصفات الخشونة للحد الذي تصبح رؤوس اللاعبين وكأنها ناطحات سحاب كل يريد التهام الأخر. اما سماء الساحة فتتحول الى سقف من التراب المخضب بحبات الدم المتطاير من فكوك وأسنان اللاعبين.

الاهداف هي الهدف
والمهم في هذه اللعبة هو تسجيل هدف الفوز الذي يعتبره الجميع احدى المفاخر التي تأتي بعد اكتشافهم الموضة واختراعهم السباكيتي، والواقعية الإيطالية الجديدة في السينما، فهو إضافة سحرية قادرة حسب فهمهم على تخدير الآخرين في جميع أنحاء المعمورة.
تستمر هذه اللعبة بالعادة ساعتين تتخللها استراحة قصيرة. واللعبة باعتقاد العديد من الرياضيين هي الأصل التاريخي لكل من لعبة الركبي الأمريكية ولعبة كرة القدم المعاصرة. والشيق فيها انها تجري مرتين في العام الواحد، المرة الأولى في بدايات شهر تموز والثاني في نهايات شهر آب. وتتهيأ المدينة لها كل الاستعدادات الكافية لإخراجها بالمظهر الساحر المغري، حيث يقدم لحضورها السواح من جميع أنحاء العالم. وتساهم بلدية المدينة في تغطية النفقات اللازمة، كما ان أسعار الدخول للملعب تباع بأسعار خيالية تصل الى عشرات الأضعاف لسعر البطاقة العادية التي يدفعها المواطن للدخول الى أي ملعب من ملاعب كرة القدم التقليدية المنتشرة في كل المدن الإيطالية.
في بداية اللعبة يجري عادة حفل تقليدي كرنفالي عبارة عن مسيرة بملابس تراثية للفرق الكروية المشاركة وغير المشاركة، يصاحبه هذه المسيرة الفرق الموسيقية الشعبية تتقدمهم الثيران البيضاء التي يعتبرها أهالي المدينة رمزا للخصوبة والعطاء، وتخترق هذه المسيرة شوارع المركز التاريخي حيث تنثر الزهور من قبل الجماهير التي تحتشد على جانبي الطرق لمشاهدة حاملي السيوف والأعلام التي ترتفع الى الاعالى بحركات جماعية منسقة، وحتى وصول الموكب الى الساحة، فيدخل الفريقان وتجري عملية القرعة لاختيار الموقعين الشمالي والجنوبي، ثم تبدأ الكرة الفلورنسية بضربة من الحكم الى الأعلى وما ان تحط بنفسها الى الأرض حتى تتناقلها الأقدام والأيدي والأسنان من اجل دفعها بالتتابع لحين وصولها الى احد الهدفين لتسجيل إصابة في شباك الخصم بغية الفوز بأكبر عدد من الأهداف للفريق القوي الذي يحتفظ بالكأس لمدة عام كامل ويسجل اسم أعضاء الفريق في دفاتر الشرف في بلدية المدينة.
خلال اجراء المباراة عادة ما يسمع المشاهدون أصوات سيارات الإسعاف وهي تروح وتجيء لنقل بعض اللاعبين الذي اصابتهم ركلات قوية او جروح خطيرة وبهذا لا يتوقف اللعب الا بعض الوقت ليعاود من جديد وكأنها حرب لا تعرف معاناة الهم والوهن.

دخول اللعبة ليس مثل الخروج منها
عندما ينتهي الوقت المحدد ويرتفع صوت صفارة الحكم معلنة انتهاء وقت المباراة يخرج الجميع وكأنهم لحوم خارجة للتو من احدى مجازر قصابة المدينة، الا ان المدينة في المساء تعيش أعياد الانتصار فتنصب المحلة الفائزة الولائم وتوزع الحلوى والمرطبات والمشروبات وتدق الطبول الكبيرة وتداعب أنامل الفتيات أوتار القيثارات لترتفع الأصوات بالغناء الفلورنسي التراثي حتى ساعات الفجر الأولى. اما الفريق الخاسر فهو كالعادة يبرر ويتوعد ويشعر بالخيبة.
وتظل الفنتازيا الايطالية ذات صلة قريبة جدا باصطياد لحظات الفرح عند الرابح والخاسر على السواء.