في التنمية المجتمعية والأزمات بين عالمين


عماد الدين رائف من بيروت: لم يتسنَ لقاسم الاطلاع على الأوراق المسحوبة عن الانترنت حول لبنان، ذلك البلد الشرق أوسطي الصغير غاب عن سمعه منذ حرب تموز 2006 فلم تعد تذكره محطات البث المحلية، كان الطبيب الأربعيني مشغولاً طيلة أسبوع في مكتبه الصغير الكائن على أطراف مدينة quot;كوليابquot; الجنوبية، يفلفش أوراق التنمية المحلية الطاجيكية وخاصة تلك المتعلقة بالعمل على التنمية في ظل النزاعات. عاد إلى المنزل متأخراً ليجد صغيره quot;صيادquot; قد عجز عن إيجاد لبنان الذي ينوي أبوه المغادرة إليه غداً، على خارطته الدراسية، quot;ابحث قرب إسرائيل لا بد أن تجده!quot;، لم يجده، وجد خطاً صغيراً ممتداً من دائرة سوداء إلى كلمة quot;بيروتquot; النائمة فوق صفحة الماء، quot;ها هو! لكن كيف ستتسع لكم أنتم الثلاثة؟quot;.

يعمل كل من قاسم، وإنوبات التي تماثله عمراً واختصاصاً، وفيروزا الوحيدة التي تجيد الانكليزية، 24 عاماً، في مكتب متشعب المهام التنموية المدينة التي تبعد عن العاصمة quot;دوشنبهquot; 200 كيلومتراً. تقع quot;كوليابquot; قرب الحدود الأفغانية الطاجيكية، وقد شهدت quot;خاتلونquot;، المقاطعة التي تنتمي إليها المدينة المنهكة جانباً من الحرب الأهلية التي دارت رحاها في التسعينات إبان الانفصال عن السلطة السوفياتية، ثم لحقتها موجة جفاف أودت بما تبقى لها من رمق، ولم يكن ينقصها سوى زلزال مدمر زارها عام 2006، فتدهورت زراعتها، وغدت مياهها ملوثة تبشر بأسوأ ظرف يعيشها البشر على وجه الأرض.

طاجيكستان والتنمية

تدهور الاقتصاد بشكل كبير في إحدى أفقر الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهي تماثل سوريا مساحة، ويزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين؛ فيما تتركز برامج التنمية التي تقودها منظمة أوكسفام الإنسانية في منطقة quot;خاتلونquot;، وقد بدأت البرامج العمل مع السكان منذ 2001 ليتمكنوا من إنتاج ما يكفي من الغذاء، ولحماية أفضل من الكوارث الطبيعية، كمساعدة الناس على كسب عيشهم من الزراعة، والعمل مع المجتمعات الريفية، والاستجابة لحالات الطوارئ مثل الزلازل وتفشي الأمراض، وتهدف البرامج إلى تحسين الظروف الصحية والمعيشية، والحد من تفشي الأمراض المنقولة عن طريق المياه. تعتمد عائلات المقاطعة على جني الفواكه والخضروات الصغيرة للاستهلاك الخاص والتصريف من خلال البيع للحصول على دخل هم في أشد الحاجة، وبات من الصعوبة بمكان العمل المستمر في الزراعة مع الجفاف، ما قلل من المحصول بشكل مضطرد. وفرت البرامج التنموية المحدودة الانتشار تدريبات للمزارعين على تقنيات مبتكرة لإنتاج المحاصيل، والإفادة من مياه الأمطار المنخفضة المنسوب، بالإضافة إلى توفير البذور والأدوات اللازمة، ومنها الجرارات الزراعية، كما عملت على تشجيع تشكيل اتحادات للمنتجين، مع تركيز كبير على العائلات التي تعليها النساء، كونها من أشد الفئات تهميشاً.

كما عملت البرامج مع المجتمعات المحلية لتكون أكثر استعداداً للكوارث، وأكثر قدرة على الاستجابة. فعندما ضرب زلزال جنوب طاجيكستان عام 2006، كثيرون فقدوا منازلهم ومعظم ممتلكاتهم، وقد عملت أوكسفام حينذاك على الإغاثة المباشرة فأرسلت صناديق من المواد غير الغذائية، البطانيات وأدوات الطبخ، وما يمكن السكان النازحين على الاستمرارية لإعادة بناء حياتهم من جديد. لا يخفى أن تدمر 15000 منزلاً يشير إلى أن بنيتها لم تكن قوية بما فيه الكفاية للصمود وتحمل الهزات، فقدمت البرامج التنموية تصوراً للتصميم المقاوم للزلازل، لإعادة إعمار سريعة وبسيطة بمواد بناء جديدة، وتقدم المساعدة التقنية القرويين لإعادة بناء منازلهم، بالإضافة إلى نظم الإنذار المبكر التي يجري وضعها ليتمكن السكان من اتخاذ إجراءات للمساعدة في حمايتهم من خطر وقوع كارثة جديدة. أما على صعيد المياه والصرف الصحي والصحة العامة، فعملت البرامج في كافة أنحاء المقاطعة لتنشئ منظومة مياه صحية خاصة، وتنظم لجان لصيانة الآبار والمراحيض حيث تقوم بإصلاحها أو تركيبها، كما تعمل على تجهيز المدارس والعيادات الصحية وتزويدها بالمراحيض.

بين quot;هناك وهناquot;

تبتني خبرة المجتمع المدني في بلداننا على تراكم التجارب العالمية ومدى استجابة المجتمعات المحلية لبعض أشكالها، لتشكل بالتالي بعد امتزاجها مع المحلي تجربة أخرى تنفع للتبادل، هذا على الأقل من الناحية النظرية، وتقوم وفود مختلفة بزيارة لبنان للاطلاع على تجاربه في العمل الاجتماعي على برامج تنموية محددة، خاصة بعد حرب تموز وفترة الإغاثة والنهوض المبكر وإعادة الإعمار التي لمّا تنتهي بعد. وعلى الرغم من كون لبنان قد لا يمثل النموذج الأفضل بسبب تمزق الشعب اللبناني إلى فئات وطوائف ومذاهب وتيارات وأحزاب وطبقات اجتماعية، قد تجعل من المتعذر على الفرد تحديد انتمائه إلى الوطن مباشرة. ويسهل على quot;الأجنبيquot; عن مجتمعنا المحلي تلمس هذا الجانب فينا، فيكفيه أن يسأل الواحد منا quot;من أنت؟quot; لنغوص في متاهات الإجابة. أما الحال مع الطاجيك فمختلف جذرياً.. فكلهم طاجيك! بل أكثر من ذلك، كانت لوقفة الطاجيك في عشرينات القرن الماضي في وجه الزحف السوفياتي عاقبة وخيمة عليهم، إذ انتزعت السلطة السوفياتية منهم أقاليم ومدناً عريقة منها سمرقند وبخارى وشهرسبذ وفرغانة وواديها لتضمها إلى الجار اللدود أوزبكستان؛ وكذا لم تقصر الصين، الجار العملاق في اقتطاع ثلاثة أقاليم من الطاجيك لتغدو جزءاً من سينكيانغ. وهكذا انتزعت من الطاجيك كل السهول والسهب، وحوصروا في جبالهم الساحرة، أما ما يقارب عشرة ملايين من أبناء جلدتهم، المتحدثون بالطاجيكية ابنة اللغة الدرّية، فتوزعوا جغرافياً على كافة الدول المحيطة، وباتوا من مواطنيها. ولم يكف الطاجيك ذلك، فقد انتزع منهم الحرف العربي ndash; الفارسي مع مطلع ثلاثينات القرن العشرين وحل محله الحرف الكريليكي ndash; الروسي ليقطع الوصل بين الشعب وعلومه المحفوظة في مخطوطات، وليهمش الوجه الثقافي العريق لشعب ترك أثراً عظيماً في مسار العلوم الإنسانية من إبن سينا إلى كل كتابات كبار أتوا مما وراء نهر جيحون؛ تلك المنطقة المترامية الأطراف التي كانت تسمى يوما بـ quot;شرق تركستانquot;.


كانت الزيارة الأخيرة إلى quot;دوشنبهquot; منتصف التسعينات، في إحدى فترات الهدوء التي صاحبت الحرب الأهلية الطويلة، وقد نمت المدينة منذ ذلك الحين حتى فكأنني لم أعد اعرفها اليوم، ما عكس توجهاً لدى الحكومات المتعاقبة على إعمار المدينة بشكل عصري مع المحافظة على طابعها التقليدي. اليوم بعد أكثر من عقد من الزمن لا وجود عملياً لمنظمات محلية غير حكومية تعمل على التنمية والقضايا الاجتماعية الملحة في البلاد، وتأتي مساهمة المنظمات الدولية غير الحكومية من خلال برامج تنموية محددة لتضفي طابعاً آخر على الوعي المجتمعي للعمل الجمعوي، ولتدفع باتجاه حراك اجتماعي من نوع آخر في ظل تفشي الفساد الإداري إلى أبعد حدوده وعلى كافة المستويات؛ وقد أتت هذه الحركة متأخرة فتشهد البلاد بشكل عنيف آثار الأزمة الاقتصادية العالمية ليعود إليها مئات الآلاف من شبانها الذين يعملون كمياومين على الأراضي الروسية، ليتحولوا إلى عاطلين عن العمل في بلادهم، بين عمال محليين قد لا تتجاوز أجرتهم الشهرية ورقة الدولارات العشرة بقليل.

لبنان.. كما هو

كانت المرأتان في حيرة من أمرهما في البداية، فلم تخرجا من حدود دولتهما في السابق، quot;يمكنكِ أن تلبسي ما تشائين في لبنان!quot;، تبادرهما زميلة لهما في المكتب، وتصور لبنان تصويراً ويكابيدياً. أما تصور قاسم المسبق حول الطبيعة الصحراوية وقطعان النوق فتلاشى مع وصوله إلى مطار رفيق الحريري الدولي، quot;ليس بلداً عصرياً جداً كما هي أفلام دبي وأبراجها وأسواقها، التي تشعر المشاهد بنظافة زائدة عن اللزوم كتعقيم المستشفيات، لكنه ليس صحراوياً، على الرغم من كون الشتاء فيه دافءquot;. سرعان ما تتغير وجهة نظره مع وصوله إلى الداون تاون، تدهش فيروزا بجمال المدينة الليلي ومطاعمها وتناغم الهندسة فيها، لكنها لا ترى صور هيفا وهبي، أونانسي عجرم كما كانت متصورة!، quot;يبدو أن المطربتين أكثر شهرة في دوشنبه منهما في موطنهما بيروت!quot;، يضحك الجميع من أمنيتي لو تحتل صورتهما مكان صور سياسيينا quot;على الرغم من كونهما ليستا مطربتين!quot;. سرعان ما ينتقل المشهد إلى الخرلب الكبير في المخيم القديم من نهر البارد بعد استصدار تصاريح مرور بشق النفس، ثم إلى أصقاع الشمال حيث تختفي كل آثار التنمية في عكار، وبعدها إلى البقاع الأوسط وبر الياس وجوارها، ثم إلى نقيض آخر في مدينة جبيل وسوقها الأثري الرائع وأزقتها الجميلة، لنحط رحالنا في مدينة صيدا بعد أسبوع من تقصي كل أشكال العمل التنموي للجمعيات وخاصة تلك العاملة على قضايا المرأة والجندرة والإعاقة.
quot;لبنان كما هو، لبنان الصدمة والمجتمعات المتنافرة الأهواء والرؤىquot;، يصلح نموذجاً لعمل اجتماعي دؤوب على قضايا بالغة الصعوبة في ظل عدم استقرار سياسي مصحوب بأمني مفاجئ. لبناننا استهوى أصدقاؤنا الطاجيك، ليحاولوا نقل ما ينفعهم منه، كما هو الحال دائماً مع متلمسي التجارب. عيون أحبت لبناننا فحملته إلى حدود الصين، ترك أثراً طيباً فيها كما هو الحال مع سعدي، شاعر القرن السادس المتحدث بالدرية، وقد تسنى لي مرة يتيمة أخرى أن أحييه بلغته في زحمة سير خانقة قرب مستديرة الصياد، على المدخل الغربي لبيروت، quot;لستُ إلا طينةً قالت ولكن/ قد تَخِذتُ الوردَ عهداً من صحابي/ فالعشيرُ الحلو أجداني وإلا/ فأنا لست سوى ذاك الترابِquot;.