نبيل شرف الدين من القاهرة: وكأنه قدر محتوم، هاهو quot;الغزوquot; مرة أخرى يقتحم حياتنا، نحن أبناء هذه المنطقة المنكوبة من العالم، لكنه هذه المرة quot;غزو ناعمquot; لا يستخدم الطائرات ولا القاذفات ولا الدبابات، بل يكتفي بغزو الأسواق ومن ثم الذوق العام والطقوس الشعبية ومفردات حياتنا اليومية، التي راحت تتغير على نحو بطيء لكنه مستمر ومتواصل، ويبدو كما لو كان مدروساً بعناية ومخططاً له، لو ارتضينا منطق القراءات التآمرية للأحداث والوقائع، واستحلاب نظريات المؤامرة التي طالما ارتاحت إليها ذهنية أبناء هذه المنطقة.

لكن في المقابل فإن هناك من يرى الأمر على نحو مختلف، بالقول quot;إن هذا وضع طبيعي بل هو أقرب إلى أن يكون إيجابياً، إذ يأتي في إطار التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب، فكل إنجاز بشري يتحول مع الوقت إلى quot;إرث إنسانيquot; يستفيد منه كل الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم.
ويمضي أنصار هذه الرؤية قائلين إن هذه البضائع الصينية على تدرج مستويات جودتها، حققت ما يمكن وصفه بحالة الإشباع الجماعية لدى قطاعات هائلة من البشر، رغم تفاوت قدراتهم الشرائية، إذ كرست لفكرة الاقتناء quot;على قد فلوسكquot;، فالبضائع الأوروبية والأميركية واليابانية متقنة وفاخرة بلا شك، لكنها أيضاً باهظة السعر، ولا يستطيع البسطاء ومحدودو الدخل شراءهاquot;، كما يرى هؤلاء.

ثم يتساءل المتحفظون على وصف quot;الغزوquot; التجاري الصيني للأسواق العربية والأفريقية قائلين : من هو المستفيد من quot;شيطنةquot; هذه السياسة الصينية في التصنيع التي ترضي الفقراء وتداعب خيالاتهم وتلبي حتى أبسط أحلامهم باقتناء هاتف محمول رائع الإمكانيات وبسعر زهيد، مقابل أسعار فلكية لنظيراتها المصنوعة في دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو حتى اليابان وكوريا الجنوبية.

الفوانيس.. الجلابيب.. الهواتف النقالة.. الياميش.. سجادة الصلاة.. كل هذه بضائع يمكن تفهم تفوق الصين فيها، لكن الأكثر إثارة في الأمر هو أن يصل quot;المدّ الصينيquot; إلى المأكولات الشعبية المصرية ذاتها، وعلى أرضها، ولعل في هذا ما يستحق التوقف أمامه طويلاً وملياً، فقد بدأت الصين تصدير علب الفول المدمس إلى مصر، التي اشتهرت به في كل أنحاء العالم، لتكتظ الأسواق بعلب الفول وعجينة الفلافل، وهكذا يصبح رمضان في مصر صينياً بامتياز.

بيزنس الصيني
هذا المعنى يعبر عنه بلغة بسيطة تاجر قاهري اسمه quot;الحاج حسن السقاquot; بقوله quot;إن الصينيين شعب رائع وحكومة ذكية، فالملحقيات التجارية بكافة سفارات الصين في العالم، خاصة في الدول العربية، راحت تدرس نفسية الشعوب واحتياجاتها، ودرسوا قدرات الشعب المصري المادية جيداً ووجدوا أن الشعب دائماً يبحث عن السلعة الرخيصة، من دون التعويل كثيراً على الجودة، لذلك بدأوا تصدير سلع رخيصة الثمن يمكن للبسطاء أن يتداولوها وأن تكون في متناول أياديهم، ووجدوا صدى واسعاً فراحوا يصدرون كل شيء، من الذهب الصيني المدهش، وصولاً إلى الياميش والفول المدمس وغيرهquot;.

تحدثنا أيضاً مع صاحب شركة تخصصت في الاستيراد من الصين يدعى quot;سيد السويديquot; الذي يقول إن ما أصبح يسمى quot;الغزو الصينيquot; ليس مقصوراً على الأسواق المصرية فقط، لكنه امتد إلى جميع الدول العربية والخليجية بالذات والأفريقية أيضاً، وإن اختلفت بالطبع الجودة وفقاً لقدرة الشعب الشرائية، وكثيراً ما التقى مستوردون وتجار كبار من دول عربية وخليجية وأفريقية في الصين يبرمون صفقات ضخمة، لكن معظم تجار الخليج يشترون بضائع أعلى جودة، وبالتالي أعلى سعراً، لأن قدرة زبائنهم على الشراء أفضل من الوضع السائد في الأسواق المصرية أو السودانية أو المغربية وغيرها من البلدان الفقيرةquot;.

ويمضي السويدي قائلاً إن الصين ستصنع كل شيء لتسيطر على أسواق المنطقة، ومسألة السلع الرمضانية مجرد صفحة من صفحات كثيرة تملأها الصين يومياً بمختلف السلع، فكل شيء في مصر أصبح له نظير صيني وبدأت الصين تحسّن جودة المنتجات التي تصدرها لمصر بعد أن بدأ البساط ينسحب قليلاً من تحت اقدامها لكنها استردّت السوق مرة أخرى، وأتوقع أن تزدهر البضائع الصينية في الأسواق، وهو ما يضع الشركات المصرية أمام تحد هائلquot;، على حد قوله.

نموذج آخر التقيناه هو الشاب quot;محمدquot; الحاصل على بكالوريوس التجارة من جامعة quot;عين شمسquot; المصرية منذ سبعة أعوام، غير أنه شأن ملايين غيره لم يجد فرصة عمل فاضطر للعمل كبائع متجول في سوق الأزهر، يحمل حقيبتين مثقلتين بأنواع كثيرة من البضائع كالساعات والقداحات والمسابح والاكسسوار الذي يطلق عليه quot;الذهب الصينيquot; وحتى الحاسبات وغيرها، ويتجول بين المقاهي لعرض بضاعته على روادها.
يختزل quot;محمدquot; هذه المسألة بلغة مباشرة وعبارات بسيطة يقول فيها quot;الصينيون شعب يحب الشغل ويجيدون استخدام ما لديهم في الصناعة ليفتحوا أسواقاً جديدة لهم ويستطيعوا استغلال الأيدي العاملة الكثيرة لديهم، وبدلاً من أن نعدد السلع التي نستخدمها من صنع الصين في رمضان أو غيره فلماذا لا نحاول هنا أن نحذو حذوهم لنستعيد مكانتنا الصناعية المفقودةquot;، حسب تعبيره.

ويمضي quot;محمدquot; قائلاً: quot;خلاص كل حاجة في السوق أصبحت صينية، حتى البخور الذي كانت الهند تشتهر به، سحبت الصين البساط من تحت أقدامها، كما اختفت مسابَح الصندل التي كانت تنبعث منها رائحة عطرة بمجرد أن تفركها بين أصابعك، الآن المسابح الصينية ممكن يكون مظهرها جميل، غير أنها صارت quot;زي أي حاجة ملهاش طعم ولا ريحةquot;، على حد وصفه.

المدمس والياميش
القصة بدأت مع quot;فانوس رمضانquot; الذي ظل على مدار قرون طويلة خلت إحدى الأيقونات الرمضانية الشهيرة في مصر، ثم تجاوزت المسألة ذلك لتمتد إلى جميع مظاهر الحفاوة بالشهر الفضيل، فمن الفانوس مروراً بالمسبحة والجلابيب البيضاء والياميش وصولاً إلى الفول المدمس، الذي ظل يشكل سمة مميزة للموائد المصرية على تنوع مشاربها، ومن شتى ألوان الطيف الاجتماعي والطبقي، سواء في رمضان أو في غيره من أشهر العام.

quot;رمضان الصينيquot; هكذا يمكننا أن نصف أجواء الأسواق في مصر ليس هذا العام فقط، بل منذ أعوام خلت، فكل شيء يحمل بصمة صينية في كل شيء، وبدت مصانع الصين حريصة على إضافة الجديد لفانوس رمضان الذي شهد تطوراً كبيراً بعد أن كان مقصوراً على quot;الفانوس أبو شمعةquot;، فإذا بالصين تصدر إلى معظم البلدان العربية والإسلامية فوانيس تعمل بالبطاريات الجافة، ولا تختلف في مظهرها الخارجي كثيراً عن الفانوس التقليدي الذي أصبح الآن يقتصر على العرض في الخيام الرمضانية الفاخرة ومداخل الفنادق الكبيرة وقصور الأثرياء لأنه مرتفع الثمن باعتبار أنه يصنع يدوياً بالكامل ومن معدن النحاس الغالي.

وهنا يقول صاحب إحدى الورش لصناعة الفوانيس التقليدية في حي باب الخلق وسط القاهرة إن أغلب الورش أغلقت أبوابها منذ سنوات بعد ظهور الفانوس الصيني بالأسواق المصرية، وأضاف أنه يعمل الآن بأقل من ربع طاقته رغم تنامي طلب المستهلكين، ويرى أن إقبال المصريين على الفانوس الصيني أوسع بكثير من إقبالهم على نظيره المصري بسبب التطور والحداثة التي تقدمها الصين كل عام في شكل الفانوس أصبح يغني تارة، ويؤذن تارات، بينما الفانوس المصري التقليدي المصنوع من النحاس فإن سعره المرتفع يجعل المشترين من الطبقة العليا لهذا أصبح وجوده مقصوراً على زينة واجهات الفنادق ذات الخمس نجوم، والقصور والفيلات الفاخرة فقط.

ثمة أمر آخر وهو أن المستوردين راحوا يتسابقون لاستيراد كل البضائع من الصينrlm;،rlm; وامتد ذلك إلى الياميش الذي ينفق فيه المصريون الملايين سنوياًrlm;، كما دخلت الصين منافسة شرسة مع الدول الشهيرة بتصدير الياميش إلى مصر مثل سورية وتركيا وإيران، لتطرح أنواعاً فاخرة من قمر الدين والمكسرات حتى الفول السوداني وكلها تحمل عبارة quot;صنع في الصينquot;، ولا تقل جودتها ـ نسبياً ـ عن نظيراتها في الدول التي طالما احتكرت هذه السلع منذ قرون مضت.

ويفسر مستورد مصري الأمر بقوله إنه ليس غريباً أن نستورد الياميش من الصين، فنحن نستورده من كل مكان، فلماذا نقف أمام استيرادنا من الصين، أما الفول المدمس الذي تصنعه الصين فلوجود جالية مصرية كبيرة هناك ويصل ثمن العلبة منه إلى جنيهين، في حين أن المحلي يباع بنحو أربعة جنيهات مصرية، ولأن الصين لا تستورد أي شيء من الخارج لذلك بدأت تصنيعه معلباً ثم صدرته لمصر بعد ذلك، وهو لم يثبت نفسه في السوق بعد، لكن سيكون له مكانه خلال السنوات القليلة المقبلة.

وأخيراً يقول الدكتور جمال الدين حسونة أستاذ الاقتصاد، إن الصينيين درسوا ظروف واحتياجات كافة الأسواق العربية، واكتشفوا أنها أسواق مفتوحة على مصراعيها، ومتعطشة يمكن أن تقبل أي شيء، فبدأت كافة السلع في التدفق على تلك الأسواق، وما السلع الرمضانية إلا مجرد محطة من سلسلة محطات وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد أن كانت المسبحة quot;الكهرمانquot;، أو تلك المصنوعة من خشب الصندل ذي الرائحة الطيبة بيد مصرية خالصة في سوق quot;خان الخليليquot; في أيادي ملايين المصريين، أصبحت المسبحة الصينية الزجاجية هي السائدة الآن في الأسواق، لتحل محل المسبحة الخشبية أو المصنوعة من الأحجار الكريمة، ثم اتسعت الدائرة شيئاً فشيئا لتحتل الجلابيب البيضاء الصينية الأسواق، ويختفي الترزي البلدي، اللهم إلا في بعض المناطق النائية في الريف والصعيد، وحتى سجاجيد الصلاة quot;صنعت في الصينquot;.