حتى لو استمر الجدال في أصل الإنسان، فإن التأريخ لحركته الأخلاقية يستدعي ردّه إلى أجداده الأوائل القرود. ثمة كتابان يتصديان لهذه المسألة.

"إيلاف" من بيروت: طرح العلماء تساؤلات عدة حول أصل الإنسان، وبنوا دراساتهم على مقارنة هذا الإنسان مع القرد ونمط عيشه. فقرود الشيمبانزي والبابون هم الأنسباء الأقرب إلى الجنس البشري، يبدون متشابهين، وحمضهم النووي هو نفسه تقريبًا. يتشابهون في الأحاسيس المألوفة التي يظهرونها، لكن يختلفون في نواحي كثيرة. فالشيمبانزي عنيف دائمًا، يضرب ذكوره إناثه ليفرضوا سيطرتهم الجنسية، كما يضربون بعضهم بعضًا ويقتلون خصومهم. في المقابل، يختلف البابون بانه ينعم بحياةٍ مسالمةٍ إجمالًا.

فأين يصنّف البشر في هذا العنف؟ وهل البشر طيبون أم سيؤون بالوراثة؟ وكيف يصقل ذلك بنية المجتمعات؟ كتابان يقدّمان بعض الإجابات عن تلك الأسئلة المطروحة.

تناقض الطيبة

يناقش العالم بعلم الإنسان رتشارد رانغهام في كتابه "تناقض الطيبة" The Goodness Paradox (400 صفحة، منشورات بانثيوم، 29 دولارًا) أنه على الرغم من الانطباع المعاكس الذي يقتنع به معظم الناس، ربما تطور الإنسان ليصبح حيوانًا طيّعًا جدًا، ويساوي بطواعيّته طواعية قرود البابون. لكنه بقي في الوقت نفسه محتفظًا بقابليته لارتكاب أعمال عنف ووحشيّة مخطّط لها، على مثال قرود الشيمبانزي. كما أصبح الإنسان أكثر وأقل عنفًا من أنسبائه الأوليين، بفضل هذا التطوّر. من هنا، يأتي التناقض الذي يسلّط الضوء عليه الكاتب في عنوان هذا الكتاب.

فقد عاش الشيمبانزي والبابون بصفتهما نوعين مختلفين لحوالي 900 ألف سنة. ويقول الكاتب إن جزءًا من سبب الاختلاف بينهما هو نمط عيشهما على ضفة نهر الكونغو؛ فعندما كانت قرود الشيمبانزي تعيش على ضفة هذا النهر، كان عليهما أن تتشارك دائمًا مكان سكنها مع قرود الغوريلا. لذلك، كان ينشأ بينها الكثير من العراك والعنف بسبب محدودية الطعام. بينما عاش البابون في الجهة المقابلة للنهر مع وفرةٍ في الفاكهة وأوراق الشجر. هذا الانتقاء الذي اختارته الطبيعة قلّل من ميل البابون الطبيعي إلى القيام بردّات فعلٍ عنيفةٍ، وحد من الطبع الانفعالي والمتهوّر عندهم.

التدجين وانعكاسه على السلوك

عكست التغيرات السلوكية المذكورة سابقًا تغيرات سلوكية أخرى لمخلوقات أخرى تم تدجينها أيضًا من أنسبائها البرّيين، كالكلاب والحيوانات التي باتت تعيش في المزرعة. أما قرود البابون، فيبدو أنها دجّنت نفسها بحكم البيئة التي عاشت فيها. يقول رانغهام إنه تم تدجين البشر أيضًا عندما بدأوا بعيشون في جماعات.

التدجين هو الذي مهّد لازدهار المجتمع البشري، واكتسب البشر بفضله قدرةً أكبر على التسامح والتعاون، وساعد على إنشاء أماكن للاستقرار والحضارة. ففي جميع المدن الحديثة، يتعايش البشر بسلامٍ نسبي أكثر من المخلوقاتٍ الأخرى؛ فعندما تطوّرت المجتمعات البشرية، تطوّرت بنيتها بفضل الاستناد إلى العدل وإلى أخلاقيات دينية من شأنها الحد من العدوانية التي تكون في غير مكانها، وحثّ البشر على القيام بالأعمال الصالحة.

مجتمع بشري وسفن محطّمة

يتمحور الباحث الاجتماعي في جامعة ييل الأميركية كتاب نيكولاس كريستاكيس "بلو برينت" Blueprint (544 صفحة، منشورات ليتل ذبراون، 15 دولارًا) حول المجتمعات الانسانية الناجحة. متشاءلًا: ما هو السلوك الذي يجعل المجتمعات تنجح ومن أين يأتي هذا السلوك؟

ينطلق الكاتب بتحليله من القصص التي حملتها معها السفن المحطّمة. ففي عام 1864، تحطّمت السفينتان "إينفركولد" و"غرافتون" على جهتين مختلفتين من جزيرة أوكلاند، الواقعة على بعد 480 كيلومترًا من جنوب نيوزيلاندا.

لم يعرف الناجون من السفينتين بوجود ناجين آخرين على الجهة الاخرى من الجزيرة. وبعد عامٍ على حصول الحادثة، انقسم الناجون من سفينة "إينفركولد" في مجموعات وباتوا يتركون الضعيف يموت من دون مساعدة، ثم لجأوا إلى أكل لحوم البشر. ولم يبق منهم على قيد الحياة، عندما حان وقت انقاذهم، سوى 3 من طاقم السفينة.

في المقابل، استطاع الركاب الخمسة من سفينة "غرافتون" أن ينجوا ويخرجوا جميعهم من الجزيرة على قيد الحياة. يقول كريستاكيس إن حوادث تحطّم السفن هي اختبار جيد لمعرفة كيف يتم بناء المجتمعات. وتعطي مجموعات الناجين الذين يتعايشون في هذه الظروف بيانات مهمّة في هذا الإطار، كما تكشف كيف يختلف الترتيب الاجتماعي بين مجتمع وآخر. وتعطي فكرة عن الإجراءات التي تقود إلى السلام والنجاة او البقاء على قيد الحياة.

السلوك الإيجابي

في تفاصيل ما جرى على السفينتين، كان يقود طاقم سفينة "اينفركولد" قبطان أناني طلب أن يهتم كل انسان بنفسه، بينما تعاون كل من كان على متن "غرافتون" في جميع التفاصيل، ابتداءً من إصلاح القوارب إلى مشاركة جميع الموارد بالتساوي بين الجميع إلى تنظيم برنامجٍ لتبادل الخبرات وهذا السلوك هو الذي ساعدهم على البقاء على قيد الحياة حتى لحظة نجاتهم ومغادرتهم الجزيرة.

بالتالي، يناقش الكاتب أن هذا النوع من السلوك لا يتم تعلّمه من الآخرين فحسب، بل ينتقل أيضًا في الجينات التي تطوّرت لتتمكّن من دفع الشعوب إلى المضي في إنشاء مجتمعٍ صالحٍ.

صحيح أن البشر يشنّون الحروب ويرتكبون الجرائم البشعة، لكن هذا لا يحدد وحده هويّتهم. فعلى الرغم من مسلسلات الدمار والموت، يحث الكاتب القرّاء إلى الإمعان في النظر إلى التطوّر الذي حصل منذ نشاة البشرية.

ينتقل المؤلف بين علم الاجتماع والانتروبولوجيا والفلسفة وعلم الوراثة والاقتصاد، بين الأدغال والمختبر، ثم يعود مجددًا، أحيانًا بسرعةٍ كبيرةٍ. وتفاؤل الكاتب والأدلة التي يمنحها بشأن المجتمعات البشرية التي تميل إلى الأعمال الصالحة، يرفعان المعنويات. كما ينتقل بين الثقافات الانسانية والعادات، مكتشفًا، على صعيد المثال، لماذا أصبح الزواج الأحادي شائعًا جدًا، إنما ليس عامًا وماذا تعني الصداقة بالفعل، وذلك من نظرة تطوّرية.

انطلاقًا من نظرة التفاؤل لديه، يرى الكاتب أن مجموعات البشر قد تكون عملت سويًا كي تحدّد وتقتلع أكثر الناس وحشيةَ من بينها. كما يضيف أن إعدام المجرمين لا يزيل وجود أحد أنواع الجينات الوحشية من المجتمع فحسب، إنما يشير أيضًا إلى أن العنف يجب أن يعاقَب.

هذا يؤدّي إلى نشوء قوانين اخلاقية ويبرهن إيجابيات السلوك الذي يكون في المجتمعات المماثلة، أكثر تجانسًا وسخاءً. بمعنى آخر، وفقًا للكاتب، على الجيران أن يكونوا صالحين مع جيرانهم خشيةً من أن يقتلوهم.

أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن "إكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/books-and-arts/2019/05/02/two-books-explore-the-evolutionary-origins-of-morality