ما يزال جسد المرأة محاصراً بتابوهات وأحكام وقياسات تنغّص عليها إحساسها بذاتها وثقتها بنفسها، إذ تشترط على هذا الجسد قائمة من المعايير بعضها يجد له مبررات دينية وبعضه يجد له تأويلات جمالية تختلف باختلاف المجتمعات. اللباس والماكياج وقياس الجسم، كلها مسائل تشغل المرأة الغربية والشرقية على حد سواء.
من أجل المصالحة بين المرأة وجسدها مهما كان مقاسه وحجمه، يعرض اليوم في كندا برنامج تلفزيوني بعنوان quot;كيف تبدو كندا العارية جميلةquot; من إخراج زين مغجي، شاب كندي من أصول هندية. فكرة البرنامج مأخوذة عن مسلسل تلفزيوني بريطاني سابق وشهير quot; ماذا يعني، والآن ماذا؟quot; اتخذ من جسد المرأة ذات المقاس الكبير موضوعاً.
الوسيلة: أن يتم تعرية جسد المرأة إلا من ثيابها الداخلية لتقف مع نساء آخريات مختلفات في المقاس، وتقف أمام الكاميرا لتؤخذ صورها في وضعيات مختلفة وتعرض في التلفزيون بعد المعالجة.
الغاية: أن تتحرر المرأة الكبيرة الحجم من خوفها الداخلي وكرهها لجسدها الذي لا يتقاطع في مقاسه مع أجساد عارضات الأزياء، اللواتي يظهرن على أغلفة المجلات كمقياس للجمال الحقيقي.
النتيجة: تتصالح المرأة مع مقاس جسدها بغض النظر عن طبقات الشحم أو كبر محيط الخصر.
هذا ما يعالجه البرنامج الذي بدأ بثه على الهواء عبر قناة quot;دبليو نت ووركquot; بتاريخ 5 يناير الحالي. العرض يمتد على 13 حلقة، مدة العرض ساعة. هذا ما يقوله فريق عمل المسلسل، ولكن هل تتغير طريقة التفكير بهذه السرعة، وسط هذا الضخ الإعلامي للتنحيف والذي يحاصر المرأة وهي تشاهد التلفزيون أو تقرأ مجلة أو تعبر الشارع أو المول!. لا أعتقد أن المرأة بحاجة أن تسير في quot;المولquot;في ثيابها الداخلية كي تصبح فكرة الجسد الممتلئ مقبولة وطبيعية. هذه المعضلة تحتاج إلى عمل quot;نضاليquot; مدروس ومبرمج كي تعود المرأة إلى التمسك بقيمتها الذاتية بغض النظر عن حجمها ولونها. يذكرني هذا بنضال السود على مر التاريخ إلأى أن أصبنا نرى اليوم في محلات الأزياء quot;مانيكاناتquot;بلون أسود وبلون أبيض. ومؤخرنا سمعنا عن نسخة سوداء من quot;باربيquot;. باربي- المثال المقيت على جسد امرأة نحيف وغير طبيعي في مقاييسه، رغم ذلك تحاول بعض النساء تقليده، حتى لو أدى بهنّ ذلك إلى مرض الـ quot;انراكسياquot; المميت.
كيف تم التحضير للبرنامج: في وقت سابق من السنة تعم تعميم إعلان في الصحافة الكندية يدعو نساء أونتاريو لاغتنام هذه الفرصة والتقدم للمشاركة في البرنامج. أعمار النساء بين (25-60) أما قياس الجسم فيتراوح ما بين ( 10-18). لا شروط للمهارة الفنية والمقدرة على التمثيل والاستعراض.
جاء في الصحف الكندية على لسان إحدى المشاركات في العرض، وهي كاتبة تقارير لصحيفة تورنتو ستار، مادلين وايت: لم أكن يوماً امرأة من ذوات القد الصغير وتأقلمت مع محيط الخصر والورك، ولم أكن أكره جسدي لكنني لم أتردد أن أذهب إلى هذا البرنامج وأقف أمام الكاميرا باللباس الداخلي وأنا أعلم أن الآلاف سيشاهدوني على التلفزيون... لقد كنت الأكثر نحافة بين النساء الأخريات اللواتي اشتركن في المسلسل التلفزيوني. نساء فشلن في تنحيف أجسادهم رغم استخدام الحبوب والرياضة وغيرها من الوسائل. إحدى النساء المشاركات فنانة موسيقية، شاركت في العرض كي تسدد فواتيرها المتراكمة....quot; يبدو أن الفن والعزف لن يدفع الفواتير لكن وقوف المرأة عارية لمدة 5 دقائق أمام الكاميرا سوف يساعدها على التخلص مؤقتاً من الضغوط المادية المتراكمة.
مقاييس الجمال وعمليات التجميل
جمال الجسد مسألة خضعت للتغيير مع العصور. بعد أن كانت المرأة الممتلئة الحوض والخصر والصدر حاضرة في تماثيل ورسوم العصور البدائية والحضارات القديمة، أصبحت المرأة النحيفة جداً هي التي تستخدمها دور عرض الأزياء. بغض النظر عن الحالة الصحية التي تحيق بالمرأة وهي تحاول أن تحافظ على جسدها ليصبح quot;مشجباًquot; تعلق الثياب عليه. قرأنا عن موت عدد من العارضات الشابات وذلك لشدة النحافة وهذه البرامج التلفزيونية لن تساعد إلى حد كبير في قلب الصورة الشائعة عن جماليات المرأة وخاصة في هذا العقد من القرن 21، حيث أصبحت عمليات التجميل تجارة رابحة رائجة في الشرق والغرب. الجراحون الإخصائيون يسجلون أرقاماً قياسية في الأرباح. لقد أصبحت امراة حقلا ميدانياً للتشطيب وابتكار صورة امرأة مغايرة للأصل، صورة من صنع الرجل. صار زرع الشعر، العدسات الملونة، نفخ الشفاه، شفط الشحوم، نفخ الوجنتين وما تحت العيون، شدّ الجلد المترهل...الخ مسائل شائعة ولم تعد تقتصر على نجوم هوليود أو جيل المغنيات المعاصرات، لقد انتقلت عدوى الحديث عن جمال الجسد واستعراضه إلى نساء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولم تسلم من الأمر نساء في القطاع الثقافي. لقد جعلت بعض الكاتبات من جسدهن سلعة تتطغى على النص وتنتصر له أو تناصره. قرأت تحقيقاً صحافياً في إحدى الجرائد العربية للبت في مسائل عمليات التجميل ولطرح رؤيتهم الجمالية حول المرأة. بعضهم أعرب عن قبوله لعمليات التجميل ورغبته في رؤية نساء خاليات من التجاعيد حتى وإن كان ذلك من خلال الجراحة التجميلية.
بهذا المنطق لن يصبح مقبولاً وجه جداتنا المجعّد، ولن يكون مستساغاً رؤية أجساد الشريكات قد ترهل مع الزمن وتجعّد. ربما علينا أن نطور نظريات في الحبّ والعشق ويجب أن نكتب معلقات عن فتنة الشيخوخة ومظاهرها قبل أن نكتب عن الجسد الفتي وطاقته الآسرة.
نعم، يلزمنا جسد حر ومتحرر من كل القيود التي تسلّعه، يلزمنا في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى عقلية تحترم الكائن البشري الرجل أو المرأة بغض النظر عن الجمال والطول والعرض، لون الجسد، وكمية القماش الذي يجب أن تحيط بهذا الجسد، بالرأس، بالأصابع...
نعم، لا أحد يكره أن يكون الجسد جميلاً متناسقاً وصحياً بالدرجة الأولى، لكن لا أحد يتحدث اليوم عن الألم التي تعاني منه المرأة حين تخضع لعمليات التجميل الشائعة. لا أحد يتطرق أيضاً إلى حالات الموت التي تحدث والاختلاطات الممكنة بعد شفط الدهون أو نفخ الشفاه بالمواد الغريبة عن طبيعة اللحم البشري.
نذكّر بكتاب مهم يتحدث عن الألم وعن الخسائر بالأرواح والأموال من خلال الاحصائيات والأرقام. في بعض الأحيان تدفع المرأة حياتها ثمناً كي تصبح مقبولة في نظرهم-هم. من هم؟ من الذي وضع في يدهم هذا المشرط وهذه الشروط وهذه المقاييس، وجعل المرأة مكبّلة بهذا الهمّ الفادح؟!
تقول الكاتبة ناعومي وولف في quot;أسطورة الجمالquot; أن quot;العمليات الجراحية تغير الفرد إلى الأبد، جسديا وذهنياً. إن لم نقف ونتكلم عن هذا الأمر بجدية، ستصبح نساء القرن القرن الجديد نساء - من صنع الرجال، سنصل كلنا إلى مرحلة لا يعود لنا خيار في قبول هذه المقاييس أو رفضها.
رسالة إلى جسدي
البرنامج الآخر الذي دعت إليه مخرجة مسرحية كندية كان محوره أيضاً جسد المرأة من أجل عقد المصالحة بين جسدها وروحها، سواء أكانت شابة أو عجوزاً. العرض المسرحي يجري كل سنة مرة. تشارك فيه نساء عاملات وعاديات من جميع القطاعات- ليست المهارة التمثيلية مطلوبة. ليس مطلوباً من المرأة أن تتعرى من ثيابها أمام الكاميرا بل تلبس ما يروق لها. أعمار النساء في هذا العرض المسرحي يجب أن تكون 45 سنة وما فوق. يشترط للمشاركة في البرنامج أن تكتب quot;رسالة إلى جسدهاquot; تبوح فيها عما تعانيه من مشاعر ايجابية أو سلبية اتجاه هذا الجسد الذي يجتاز معها كل مراحل الشباب والشيخوخة. ويلقى العرض إقبالاً ومشاهدين من كل الأعمار.
جمال المرأة يكون بتحقيق حريتها. حريتها في أن تكون ذاتها وما تريد أن تلبس وما تريد أن تكشف. حريتها في أن تأكل ما تشاء وتعمل حيث تشاء، لا حيث وكما يريد لها السيد في معامل quot;تصنيع وتسليعquot; الجسد وفق مقاسات التجار في السوق العالمية. الجمال ليس وصفة ومقاييس جاهزة، إلا إذا أراد الإنسان المعاصر الحصول على دمى متحركة جميلة القالب. هيا، هذا نداء إلى كل امرأة أن تجلس في خلوة وتكتب رسالة إلى جسدها، سواء أكانت كاتبة أو أما تعمل في مطبخ العائلة. اكتبي سيدتي رسالتك، تأمليها بعمق، ثم لقميها للنار. النار تطهّر الكلمات من الجرح.
جاكلين سلام: شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا
[email protected]
التعليقات