حزب البعث العربي الإشتراكي ليس مجرد حزب سياسي عادي مر مرورا عابرا في الحياة السياسية للعراق و العالم العربي و شكل على مدى عقود طويلة إمتدت منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي رقما حاضرا و مثيرا في تلك الحياة، بل أنه ظاهرة سياسية عربية مشرقية بإمتياز لأن وجود هذا الحزب التنظيمي لم يمتد ليشمل مغرب العالم العربي بل توقف تنظيميا عند أبواب مصر التي لم يستطع إختراقها ولا توفير أي قاعدة شعبية حقيقية له كما كان الحال في العراق و بلاد الشام و الجزيرة العربية و اليمن وحتى السودان إلى حد ما، ولربما بإستثناء موريتانيا في بلاد المغرب فإن شعوب المنطقة لا تعرف شيئا عن البعث و البعثيين فخطابهم هناك لا يحظى بالشعبية على عكس الخطاب القومي الناصري مثلا، وعموما و لكي لا نتشعب بالموضوع، فإن الحديث عن حزب البعث يعني الحديث عن مرحلة ساخنة و ملتهبة هي من أشد مراحل الفوضى القائمة في الشرق ألأوسط، فالبعث الذي كان في بداياته الجنينية الأولى بين أوساط الشباب في مقاهي دمشق العتيقة دعوة وحدوية قومية تؤمن و تدعو لوحدة الأمة العربية و إرساء رسالتها الحضارية عبر أسلوب رومانسي فلسفي حالم عرف به مؤسس البعث و مفكره ميشيل عفلق تحول في أخريات أيامه لأكبر عائق و معوق لوحدة تلك الأمة؟
بل زرع الأسس الحقيقية للتدمير الذاتي للعالم العربي من خلال زرع الفتن و إشعال الحروب، و تمجيد الغزوات الجاهلية وزرع العداء و البغضاء و الإنشقاق المدمر بين أبناء المشرق العربي، فالوحدة تحولت لإنفصال دائم بعد أن غزا الشقيق شقيقه في ليل غادر و بهيم كما حصل حين غزا العراق الكويت تحت الراية البعثية الوحدوية في عام 1990، و كما حصل في الصراع العدائي و المدمر بين نظامي البعث في العراق و سوريا و الذي إستهلكت مساحته كل فترة حكم نظام البعث في العراق.
تاريخيا.. لم يتح لأي حزب عربي أن حكم بلدين في وقت متزامن و لفترات طويلة كما حصل مع حزب البعث الذي حكم أهم بلدين في الشرق الأوسط وهما العراق و سوريا و لكنه وهو يخوض و يتخبط في أوحال السلطة لم يستطع أبدا ترجمة المباديء المدونة و المكتوبة لبرنامج عملي حقيقي، وحتى المؤسس ميشيل عفلق الذي كفر بالحزب الذي أسسه و غادر منذ منتصف الستينيات العالم العربي ليعيش في البرازيل كان يشكو من ظاهرة ( عدم الإنضباط الحزبي ) التي كانت تؤرقه بشدة فكثيرا ماكان يقول بأن الحزب بدون إنضباط يتحول لعصابة!! وهو تشخيص دقيق للحكم البعثي في بغداد ودمشق، ففي العراق وصل الحزب للسلطة بصورة غير طبيعية ووفق إمكانيات أكبر بكثير من قدراته في الثامن من فبراير/ شباط 1963 بعد إنقلاب عسكري دموي إرتبط بالمصالح الدولية و بأشد فصول الحرب الباردة همجية ودموية، وحيث أطيح بنظام اللواء عبد الكريم قاسم الذي كان يعيش هواجس الإنقلابات الدائمة منذ إنقلابه الدموي على الشرعية الملكية الدستورية في 14 تموز / يوليو 1958 وحيث سادت شعبية اليسار العراقي في الشارع وخصوصا الحزب الشيوعي العراقي و الذي رغم شعبيته الجارفة وقدرته الأكيدة على إستلام السلطة إن أراد ولكنه ظل بعيدا عنها لأن القيادة الشيوعية كانت تعلم بأن قيادة الشيوعيين للعراق ستكون كارثة و ستؤدي لنتائج وخيمة لاقدرة للحزب على إجتراعها ورغم ذلك فقد جاء إنقلاب 1963 العسكري تحت الغطاء الآيديولوجي البعثي لينصب مجزرة دموية كبرى للشيوعيين و أنصارهم و لتعمد شوارع العراق بالدم و الأشلاء ولم ينته ذلك العام حتى إنتهى حزب البعث نفسه بقيادته الشابة المراهقة الطائشة ووجد نفسه خارج السلطة بعد أن رفع العسكريون غطاء الحماية عنه لينفرد الرئيس الراحل عبد السلام عارف بالحكم و يبعد البعثيين الذين إرتبط إسمهم منذ ذلك الحين بالأعمال القذرة للميليشيا الحزبية الدموية المسماة ( الحرس القومي ) التي إرتكبت مجازرا بشعة في الشارع العراقي، سقط البعثيون العراقيون و أبعدوا عن السلطة بعد تسعة شهور فقط و تمزق حزبهم بعد إنشقاق و تناحر قياداته و إنهيارها، فمؤسس حزب البعث في العراق فؤاد الركابي تحول لناصري متطرف! وكذلك الحال مع علي صالح السعدي وهاني الفكيكي وإياد سعيد ثابت وغيرهم الذين شكلوا تنظيما يساريا آخر ( الوحدويين الإشتراكيين )!!، فيما ترك آخرون النشاط الحزبي و تفتت الحزب قبل أن تسيطر عليه مجموعة جديدة من المتريفين و الشقاة و ألأقل مستوى تعليمي و فكري و إجتماعي كان في مقدمتهم صدام حسين الذي إرتبط إسمه بالعصابة التي حاولت إغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد في خريف 1959 وهي العملية التي تبرأ منها رسميا حزب البعث ( رغم تثمينه لشجاعة الرفاق الذين قاموا بها )!!
وهو تبرؤ غريب للغاية!!، عموما ظل البعث في العراق يراقب الموقف السسياسي المتدهور وهو في حالة ضعف شامل حتى أرادت الإرادات الدولية و خصوصا التنافس البريطاني / الأميركي بعد هزيمة العالم العربي في حرب الخامس من يونيو / حزيران 1967 و إقتراب موعد الإنسحاب العسكري البريطاني من شرق السويس أواخر الستينيات تغيير قواعد اللعبة الإقليمية فتمت ترتيبات لإنقلاب قصر داخلي ضد نظام الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف أتيح من خلاله لحزب البعث الوصول للسلطة ثانية في العراق في واحد من أغرب الإنقلابات سلاسة و سهولة و إرتياح! إذ فتحت أبواب القصر الجمهوري لثلة من البعثيين متكومين في ( بيك آب ) وانيت للدخول للقصر و إستلام السلطة لكون ( حاميها حراميها )! إذ أن حماة نظام عارف في الحرس الجمهوري و الإستخبارات هم من خانوا رئيسهم و سلموا مفاتيح الحكم لمن إحتز رؤوسهم ووجودهم فيما بعد! فجاء البعث مرة ثانية للحكم رغم أنه كان أضعف حزب في الشارع العراقي!!
أما نظام البعث السوري فحكايته مختلفة بالمرة،فهو منذ أن جاء للحكم بعد شهر من إنقلاب زميله البعث العراقي أي في 8 آذار / مارس 1963 و تحت قيادة ( اللجنة العسكرية ) التي كانت تسيرها الطائفية المقنعة لم يتخل عن السلطة بل كان يدير النزاعات السلطوية الحادة التي إمتدت لإقتلاع و خلع القيادة القومية الرسمية لحزب البعث أي قيادة ( عفلق / البيطار/ منيف الرزاز ) و إعلان البعث القطري و الدخول في مرحلة الإشتراكية و الثورية المتطرفة عبر تصفيات دموية رهيبة في صفوف الحزب و الجيش إعتبارا من إنقلاب شباط/ فبراير 1966 الدموي الذي أطاح بالقيادة القومية للبعث و بحكم الفريق أمين الحافظ وأستلم السلطة مجموعة من الضباط الشباب الذين كل حصيلتهم هو ممارسة العنف الدموي بعد أن إبتعدت القيادات البعثية المؤسسة عن السلطة فعفلق إنزوى بعيدا بقرب غابات الأمازون يحلم ببعث رومانسي لم يعد موجودا إلا في عوالم الخيال، فيما ظلت ( التجربة المرة ) هي العنوان التاريخي لحزب البعث حتى قال الشاعر الفلسطيني الشهيد كمال ناصر ( وكان بعثيا ):
لم يبق للبعث عندي ما أغنيه ودعته و سأبقى العمر أبكيه!
وجاءت هزيمة الخامس من حزيران 1967 لتثبت وتؤكد هزالة نظام البعث السوري المعتمد على الجعجعة الكلامية و الشعارات المتطرفة وحيث دخل الحرب مع إسرائيل بقيادة عسكرية كانت خالية من ضباط الأركان المحترفين بسبب التصفيات وحملات الإعدام و التطهيرات المستمرة و أندلع الصراع الداخلي بعد مجيء المنافس البعثي الآخر في العراق للسلطة وهو الحزب الذي كان مؤمنا بولاية القيادة القومية المشردة في البرازيل وفرنسا، فحدثت التصفيات البعثية في دمشق و أبعد عبد الكريم الجندي حتى جاء دور صلاح جديد وجماعته ( نور الدين الأتاسي و يوسف زعين ) و أبعدوا عن السلطة و الحياة بعد سيطرة حافظ الأسد و جماعته على السلطة المباشرة لتدخل سوريا ومعها حزب البعث في طور جديد تميز بوجود القائد الواحد الأوحد الذي يحوم حوله الآخرون إعتبارا من أواخر عام 1970 فيما كان البعث العراقي يعيش التصفيات المستمرة متدثرا بمباركة و عطف القيادة التاريخية و المؤسسة للبعث ( ميشيل عفلق و الرزاز و شباي العيسمي و الياس فرح ) وكذلك جماعة أمين الحافظ المخلوعين عن السلطة في الشام، فنشب العداء المرير بين طرفي البعث و قطعت الحدود بالكامل بين سوريا و العراق و نصبت المؤامرات المتبادلة و كانت باكورة الإنجازات القمعية للبعث العراقي هو تصفية الرفاق البعثيين المؤمنين بنهج النظام السوري من المؤيدين لإقصاء القيادة القومية أي ( البعث اليساري ) الذين أفتتح قصر النهاية التعذيبي نشاطه بهم و اكمله بالشيوعين و القوميين الناصريين و الجماعات الدينية الأخرى كالدعوة و الإخوان المسلمين وحزب التحرير و غيرهم حتى أراد زبانية و جلاوزة التعذيب في قصر النهاية الهيمنة المباشرة على السلطة في إنقلاب 30 حزيران/ يونيو 1973 بقيادة اللواء ناظم كزار الذي فشل في إغتيال الرئيس البكر و نائبه صدام حسين في عملية كانت شبيهة بمفرداتها و سيناريوهاتها بمحاولة إنقلاب الطائرة الملكية في المغرب في صيف عام 1972!! لأنه وفقا لمصادر سياسية و تاريخية وثيقة الصلة بالنظام العراقي السابق فإنه كانت للمخابرات العراقية أدوار غامضة لم تعلن أو يسجلها التاريخ المكتوب في تلك المحاولة الإنقلابية في المغرب ضد نظام الملك الراحل الحسن الثاني!!، فالعراقيون كانوا على إتصال بالجنرال الإنقلابي المغربي محمد أوفقير!! وهو موضوع و ملف مختلف بالمرة سنتطرق له لاحقا بعد إكتمال جمع المعلومات.
بعد عام 1973 ساءت العلاقات العراقية / السورية بشكل حاد وخصوصا بعد حرب تشرين / اكتوبر في ذلك العام و تميزت بالنفور الحاد الذي إمتد لقطع حتى مياه نهر الفرات! فيما كان الصراع الداخلي الحزبي في العراق قد بلغ مداه مع الترتيبات التي أعدها جناح صدام حسين للهيمنة الكاملة على السلطة في العراق، فيما كان السوريون في حالة إنشغال في مرحلة ما بعد الحرب و تأمين النظام الذي لم يلاق معارضة قويه إلا من جماعة الإخوان المسلمين الذين وجدوا ملاذا لهم و تمويلا من العراق البعثي الخصم للبعث السوري و الذين إستخدمهم في أحداث الثمانينيات الدموية المرعبة في الشام، فيما تكفل النظام السوري يإيواء الإسلاميين العراقيين أيضا وهي حكاية طويلة و عجيبة ومدهشة في فصولها!!، صفحات خطيرة لم تكتب أو تدون من أسرار الصراع المحتدم، وتاريخ حزب البعث و صراعاته لم يتم كتابته بشكل محايد من البعثيين الذين عاشوا تلك التجربة و ساهموا في صناعة أحداثها و مفرداتها و حلقاتها، فالإعدام الشامل للمعارضين البعثيين لصدام في العراق قد حجب معلومات مهمة، كما أن إعتقال و سجن البعثيين من جماعة صدام حسين الذين أسقط نظامهم عام 2003 وخضعوا للسجن الأمريكي قد حجب المعلومات الحقيقية عن ما كان يدور من تآمر وقصص و صراعات و لعل مطالبة أخ صدام غير الشقيق ( وطبان التكريتي ) بمحاكمة حزب البعث و التي أعلنها في المحكمة الخاصة في شهر أكتوبر من العام الماضي تعطي للباحثين مؤشرا هاما على دور البعثيين القياديين الذين لم ينقرضوا بعد في إعادة كتابة تاريخ التجربة البعثية في العراق وهي تجربة مهمة للغاية لأن حزب البعث حكم العراق لأطول فترة في تاريخه المعاصر ( 35 عام ) و ساهم في صياغة العقل و الشخصية و المنهجية الفكرية و السلوكية لملايين العراقيين بصرف النظر عن مصداقيتها أو طبيعتها، إنها دعوة صادقة وصريحة للمؤرخين العراقيين خصوصا لمحاولة الحصول على المعلومات التاريخية الهامة من المعتقلين البعثيين قبل أن يبادوا و تنقطع الأخبار الحقيقية و الأسرار الفعلية للمأساة العراقية الراهنة، فتاريخ حزب البعث بكل شروره و آثامه و حسناته ( إن وجدت ) هو جزء هام وفاعل و رئيسي من التاريخ العراقي المعاصر!... فهل يغتنم مؤرخو العراق الفرصة التاريخية...؟ أم أنهم مشغولين ب ( اللطم )!!... وتلك هي المعضلة؟.
التاريخ السري و الحقيقي لحزب البعث لم يدون بعد...؟
التعليقات