كنتُ قد توقّعتُ، في تحليل سابق لنتائج انتخابات مجالس المحافظات في العراق، التي جرت في أواخر كانون الثاني/ يناير 2009، أن ينمو شكل جديد من الاصطفافات السياسية، يتمثل في بناء كتل (وطنية)، تقوم على تحالف بين قوى ذات نزعة مركزية، شيعية، يمثّلها على نحو أساسي تيارُ رئيس الوزراء نوري المالكي، وتكون القوى السنّية عنصرا أساسيا في هذا التحالف، إذ أنها يمكن أن تدعم تحالفا وطنيا واسعا في مقابل صفقة تحوز فيها على منصب (رئيس الجمهورية)، الذي يطمح السنّة في الحصول عليه. كنتُ أفترض أن الديناميكية السياسية القائمة في العراق تتمثل في الاتجاه نحو بناء كتل (وطنية)، وذلك بالانتقال من الكتل الطائفية الكبرى التي تشكّلت وشكّلت المشهد السياسي سنتي 2004 و2005، وتفكّكت عمليا داخل الممارسة السياسية والبرلمانية منذ سنة 2007 إلى مجموعة من الكتل الطائفية الصغيرة، أقول: الانتقال إلى إعادة تركيب كتلة (وطنية) تجمع عددا من الكتل الطائفية الصغيرة، وعلى وفق الخطاطة الآتية:

كتل طائفية كبرى larr; كتل طائفية صغيرة larr; إعادة تركيب كتلة وطنية تمثل تجميعا لعدد من الكتل الطائفية الصغيرة

إن صفة (الوطنية)، هنا، لا تستعيد المعنى الكلاسيكي لـ (الوطنية)، الذي يعني تذويب الهويات الطائفية والإثنية، بل تعني أن (الهوية الوطنية) تتشكل من مجموع هذه الهويات، بمعنى أن هذه الكتلة الوطنية لن تُعرَّف بنسيان الهويات الطائفية، بل بكونها تجميعا لهذه الهويات في ائتلاف واحد، وهو ما يمكن أن يقلب منظور (الوطنية) ويعيد تعريف معنى (الوطنية العراقية) نفسها.
كان يمكن لهذه الكتلة الوطنية (المتصوَّرة) أن تمثِّل نقلة حاسمة في العملية السياسية في العراق، من جهتين: أنها ستعمل على بناء تنافس على تمثيل الطائفة، وأنها ستعمل على بناء ائتلاف تأريخي لإدارة السلطة.


غير أن هذا التوقع لم يحدث، ومضت العمليةُ السياسية، قبيل الانتخابات النيابية المقرَّر إجراؤها في آذار/ مارس 2010، باتجاه إعادة بناء كتل طائفية كبرى. يحدث هذا، دائما، في اللحظات المفصلية، كلحظة كتابة الدستور، أو تحديد شكل النظام السياسي، أو تشكيل الحكومة، أو انتخابات نيابية حاسمة ومهمة، كالتي يُقبل عليها العراق، أو ما إلى ذلك. وتحدث هذه العودة في جو من التعبئة الطائفية، يذكِّر تماما بالأجواء التي سادت الاستفتاء على مسوّدة الدستور والانتخابات النيابية سنة 2005.
لقد أعاد فشل مشروع بناء كتلة (وطنية) الجميعَ إلى العصبية الطائفية، التي يبدو أن التعبئة لها أسهل أنواع التعبئات، وقد خاض المجتمعُ السياسي العراقي تمرينا معقّدا عليها، وأثبتت نجاعتَها خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدّام حسين، حين بدا الجمهورُ العراقي طيّعا أمام مثل هذه التعبئة.


ومن ثم، أضاعت النخبةُ السياسية فرصة تأريخية لبناء ائتلاف وطني، وهي الفرصة التي أفرزها الواقعُ السياسي الذي شكّلته انتخاباتُ مجالس المحافظات السابقة. ولعل المسؤول الأول عن ضياع هذه الفرصة هو رئيس الوزراء المالكي، الذي حقّقت القائمةُ التي يتزعمها (ائتلاف دولة القانون) فوزا كبيرا في هذه الانتخابات. وقد عُدّت الانتخاباتُ السابقة تكريسا له بوصفه زعيما قويا، ولتياره بوصفه أحد التيارات الأساسية في المشهد السياسي. لقد عمل فوزُ قائمة المالكي في انتخابات مجالس المحافظات على إعادة ترتيب وصياغة موازين القوى داخل المشهد السياسي الشيعي، وكان هذا الفوزُ عتبة مهمة في إعادة صياغة خطاب الإسلام السياسي الشيعي، من التعبير عن الهوية الطائفية إلى التأكيد على فكرة (الدولة)، كما أنه عبّر عن صعود تيار قوي ينادي بـ (المركزية)، بعد سنوات من سحر النموذج اللامركزي. وبخلاصة مكثّفة، كان هذا الفوزُ تعبيرا عن نموّ صيغة سياسية داخل المشهد السياسي الشيعي، وهي الصيغة التي أسمِّيها (الوطنية الشيعية)، التي تتحدد بأنها ذات نَفَس مركزي، وعروبي، بما يعني أن هذه الوطنية هي وطنية معارِضة لإيران، ترفض تذويب التشيع العراقي في التشيع الإيراني الإمبراطوري، وأنها تميل إلى اختيار صيغة لتقاسم سلطة، وشراكة سياسية، وتعايش اجتماعي، مع سائر المكونات العراقية، ولا سيما السنّة، في مقابل التيارات السياسية الشيعية التي عبّرت عن صيغ لاحتكار السلطة، سواء باسم (الأغلبية الديموغرافية)، أو باسم (المظلومية)، أو تحت أي اسم آخر.

المالكي والفرصة التأريخية الضائعة
لقد كان ثمة توقّع واسع بأن يفيد المالكي من الخريطة السياسية الجديدة التي أفرزتها انتخابات مجالس المحافظات، ويتخذ مشروعُه السياسي نحوَ الانتخابات النيابية المقبلة ثلاثةَ مسارات: أن يعمل على بناء ائتلاف (وطني)، يجمع على نحو أساسي القوى ذات النزعة المركزية، القريبة من رؤيته السياسية، وأن يُظهِر بوضوح أنه يعبِّر عن تيار سياسي شيعي عروبي متمايز عن التيارات السياسية الشيعية الموالية لإيران، وأن يُظهِر أنه ضحية نظام المحاصصة، الذي بنته العمليةُ السياسية خلال السنوات الماضية، والذي جعل منه زعيما لدولة مقيَّدة.


غير أن المالكي، وإن أطلق بوادر لهذه المسارات الثلاثة، فإنه لم يمض فيها إلى النهاية، وقد كان بإمكانه أن يجعل منها محورا لمشروعه.
وبالتوازي، تراجعت على نحو كبير الشعبيةُ التي حازها المالكي عقب انتخابات مجالس المحافظات، وذلك لأكثر من سبب، منها التفجيرات الضخمة والنوعية التي شهدتها مبان تابعة لوزارات ومؤسسات دولة أساسية بدءا من آب الماضي، الأمر الذي ألقى ظلالا من الشك على قدرة الحكومة على مواجهة الجماعات المسلّحة وتنظيم القاعدة، ومنها مشكلة اجتثاث البعث التي أفقدت المالكي قبولَه لدى الجمهور السنّي، الذي صنعته مواجهته للميليشيات الشيعية وللطموحات الكردية، غير أن السبب الرئيس في تصوّري يرجع إلى خيبة أمل الجمهور الشيعي من الإدارات المحلية للمحافظات الشيعية الثماني والعاصمة بغداد، التي تشكّلت وتولّت الإدارة عقب انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة. هذه الإدارات يسيطر عليها (ائتلاف دولة القانون)، الذي يقوده المالكي. ومن ثم، كان الصوتُ الذي أعطاه إياه الجمهورُ الشيعي في انتخابات مجالس المحافظات يتبدّد في خيبة الأمل من الإدارات التي جاءت بها هذه الانتخابات.


ربما يرجع فشلُ المالكي إلى أنه لم يكن مهيَّأ للتعامل مع حالة الفوز التي حقّقها في انتخابات مجالس المحافظات، تماما كما لم تكن حركة حماس مهيّأة للتعامل مع فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية سنة 2006، غير أن فشل المالكي هذا يخضع على ما أتصوّر لثلاث عقد تحكم العملية السياسية في العراق:
العقدة الأولى هي (عقدة المركز)، وهي العقدة التي تتشكّل من التعارض بين سعي الأطراف المشاركة في اللعبة السياسية إلى وجود مركز ضعيف، وهو ما بدا أنه تقليد فرضه النظام التوافقي خلال السنوات الماضية، وأنه الضمانة الوحيدة لحيوية دائمة للشراكة في السلطة وعدم انفراد جهة ما فيها، ولذلك، كانت سائر الأطراف السياسية تعمل على إبقاء المركز ضعيفا، وبين الديناميكية التي تقود المركز، وأي شخص يتولى إدارته، إلى توسيع صلاحياته وتعزيزها وتقويتها. وقد كان المالكي تجسيدا لهذه الديناميكية، من خلال مشروع المركزة الذي قدّمه خلال السنتين الماضيتين، سواء في حصر الصلاحيات الأمنية، أو في مركزة القرار، أو ربط المؤسسات السياسية به، بما في ذلك السلطات المتعددة، والهيئات المستقلة، والإدارات المحلية. ولذلك، كانت سائر الأطراف السياسية تتخذ مشروعا معاديا لمشروع المركزة هذا: حلفاؤه الشيعة الذين تعاملوا مع هذا المشروع على أنه إقصاء لهم، والأكراد الذين لا يزالون يخافون من مركز عربي قوي ينقلب عليهم، والسنّة الذين يعارضون مركزا قويا يهيمن عليه الشيعة.


غير أن القوة السياسية التي اكتسبها المالكي بعد انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة والشعبية والحضور اللذين حازهما في السنتين الماضيتين بسبب المعارك التي قادها ضد الميليشيات، جعلا الأطراف السياسية تتعامل مع (عقدة المالكي) بالأسلوب الآتي: أن تفكر وتعمل على بديل له، وتتعامل في الوقت نفسه مع احتمال أنه باق في السلطة.
العقدة الثانية هي عقدة البقاء في السلطة من خلال وحدة طائفية صلدة. وتحديدا، يتجه تفكير الأطراف التي تعمل على سيطرة شيعية دائمة على الحكم في العراق إلى أن هذه السيطرة تتحقق من خلال كتلة سياسية موحّدة لسائر الأطراف الشيعية. وعلى نحو خاص، يسيطر هذا النمطُ من التفكير على جهتين لهما تأثير كبير في القرار السياسي الشيعي في العراق: المؤسسة الدينية في النجف، وإيران، التي تفكر بأن نفوذها الكبير في العراق يتأتى من وجود ودعم كتلة سياسية شيعية موحّدة، وتخشى من أن انقساما شيعيا قد يفقدها هذا النفوذ. وقد بات معلوما أن الحكومة الإيرانية دعت ورعت، في خريف 2009، مفاوضات في طهران بين الكتلتين السياسيتين الشيعيتين الرئيستين (ائتلاف دولة القانون، والائتلاف الوطني العراقي) لكي يدخلا الانتخابات النيابية القادمة كتلة واحدة.
وبلا شك، إن سائر النسيج السياسي الشيعي، وفي الصدارة منه المالكي، يتأثر بمثل هذه الضغوط.
أما العقدة الثالثة فهي عقدة التمثيل السياسي على أساس طائفي. وهذا لا يقتصر على النخبة السياسية الشيعية، التي تركّز الحديث المتقدم عنها، بل هو يشكل قانون وروح اللعبة السياسية في العراق.


لقد اتجه التفكيرُ السياسي السنّي، عشية الانتخابات النيابية القادمة، إلى محاولة استغلال الانقسام الشيعي، فقد عوّلت النخبةُ السياسية السنّية كثيرا على هذا الانقسام لكي تعبر إلى السلطة من خلاله، وذلك عبر ائتلاف كبير يضم القوى السنّية الرئيسة (quot;الجبهة العراقية للحوار الوطنيquot;، التي يتزعمها النائبُ صالح المطلك، وتيار quot;تجديدquot;، الذي يقوده نائبُ رئيس الجمهورية والأمين العام السابق للحزب الإسلامي طارق الهاشمي، وتجمع quot;عراقيونquot;، وهو قوة سياسية محلية انطلقت في محافظة نينوى مع انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة ويتزعمها النائب أسامة النجيفي، وquot;القائمة العراقيةquot;، وهي الكتلة البرلمانية التي يتزعمها النائبُ ورئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، الذي يتحدّر من أصول شيعية، وسأشرح لاحقا كيف أنه أصبح يُعدّ زعيما سنّيا)، وهو الائتلاف الذي أُطلق عليه اسم (ائتلاف العراقية)، الذي أُعلن في أواسط كانون الثاني/ يناير الماضي، بعد تفكير ومفاوضات داما أشهرا، ويُتوقَّع أن يستقطب الصوتَ السنّي.


لقد كان وجود كتلة سنّية موحدّة أحد الدوافع المباشرة التي حملت النخبةَ السياسية الشيعية على التفكير بإعادة بناء كتلة شيعية موحّدة.
في أواسط 2005، كنتُ أتحاور مع عدد من السياسيين السنّة، الذي تولوا لاحقا مناصبَ عالية جدا في الدولة العراقية. كان ثمة شعور لديهم بأن قرارهم بعدم المشاركة في الانتخابات النيابية في كانون الثاني 2005 كان قرارا خاطئا، وثمة قرار بالمشاركة في انتخابات كانون الأول 2005. سألوني عن قراءتي لقرار الناخب الشيعي، قلتُ إنه مضى خطوة إلى الأمام في عدم التصويت على أساس طائفي، ولكن، لو كانت ثمة كتلة سنية، فإنه سيصوِت على أساس طائفي. وبالفعل، كان (الخطأ) الثاني للساسة السنة، وريثي وبناة الوطنية العراقية، أنهم لم يستطيعوا أن يبدعوا من إطار تمثيلي سوى الإطار الطائفي، الذي عبّرت عنه منذ 2005 (جبهة التوافق)، وهي الجبهة التي جمعت القوى السنّية الرئيسة آنئذ. غير أن هذا استدعى كتلة شيعية صلدة مقابلة.
واليوم، يسير الساسة السنّة في الطريق نفسه.
وحتى لو سلّمنا بوجود حركة سنّية جادّة نحو بناء خطاب وطني (وقد أكون ممّن يلمسون مثل هذا الأفق)، فإنهم في النهاية لم يُنتجوا سوى كتلة طائفية. قد يرجع هذا إلى تسرّب تقاليد الوطنية التي شكّلت الوعي السني إلى تحركهم السياسي الراهن، والتي تجعل من الفضاء السنّي قاعدةَ ومنطلق الوطنية، من دون التفكير بإمكانية طرق أو صيغ أخرى للوطنية. ومن ثم، كانت (الوطنية السنية) ذات محتوى قومي عربي، وهو ما يتسرب إلى الخطاب السني الراهن، الذي يظهر محمّلاً بهذا النفَس.

الطائفية السياسية عبر وسيط علماني
تكشف دراسة حالة (القائمة العراقية) والتحولات التي عاشتها بين تشكلها لخوض الانتخابات النيابية سنة 2005 وبين مسارها لانتخابات 2010 عن الطابع الطائفي الذي يحكم اللعبة السياسية في العراق. فهذه القائمة انطلقت لتعبِّر عن فكرة (القوة الثالثة)، أو (القوة الوسطية) التي تبحث عن طريق ثالث للتمثيل السياسي غير الطريقين الطائفيين اللذين اتخذتهما القوى السياسية الرئيسة آنئذ، الطريق الشيعي والطريق السني، وتجسّدا على نحو أساسي في قوى الإسلام السياسي. ومن ثم، طرحت (القائمةُ العراقية) فكرةَ التمثيل عبر الهوية الوطنية العراقية، وعبر خطاب علماني لاديني.
غير أن مسار هذه القائمة منذ تلك اللحظة يكشف عن قلق الطريق الثالث.
يمكن لدراسة السلوك البرلماني لـ (القائمة العراقية) خلال الدورة البرلمانية المنقضية عبر السنوات الأربع الماضية أن يكشف عن نتائج مثيرة عن مجمل السلوك البرلماني في العراق، إذ لم تستطع هذه القائمةُ من أن تحافظ على نفسها بوصفها كتلة منسجمة في الممارسة البرلمانية، ولم تستطع أن تتمسك أو تظهر التعبير عن تيار ثالث مغاير، وكان الكثير من أعضائها يصوّتون، في لحظات مناقشة القرارات والقوانين المثيرة لجدال طائفي، على أسس طائفية أو سياسية لا تعبّر عن (طريق ثالث).
وهكذا، كانت تفقد تدريجيا الكثيرَ من أعضائها الذين رأوا أنها خرجت عن فكرتها الأصلية، أو أنها اتخذت مسارا سياسيا لا يلائم توجهاتهم، ولا سيما أنها اتجهت (أو في الأقل زعيمها إياد علاوي) إلى استقطاب ومخاطبة الجمهور السني وبناء خطاب سياسي يعبِّر عن الرأي العام السنّي، بدليل ما حصلت عليه القائمةُ في انتخابات مجالس المحافظات السابقة، فقد تركّزت نتائجُها الأساسية في المحافظات السنّية (الأنبار، وديالى، وصلاح الدين)، الأمر الذي فُسِّر بأن التوجهات السياسية للقائمة تبدو أكثر قبولا في المحافظات السنية منها في المحافظات الشيعية.


إن هذا التحوّل التراجيدي الذي عاشته القائمةُ العراقية من فكرة (الوسطية) إلى التعبير عن هوية طائفية هو جزء من قوانين اللعبة السياسية القائمة في العراق الآن ومن النظام الذي تزداد ملامحُه حدة وقوة، والذي بات يُخضع ويُدمج داخله كل التعبيرات السياسية التي تشذ عنه.
غير أن المعطى الأكثر أهمية، هنا، هو أن البناء الطائفي لم يعد مقصورا على النخب الدينية، بل إنه الآن يُنجَز بأداة علمانية. والمثال الأكثر أهمية على ذلك هو التحول البنيوي العميق الذي شهدته النخبةُ السياسية السنّية، من المحتوى الإسلاموي، الذي عبّرت عنه (جبهة التوافق)، إلى المحتوى العلماني القومي، الذي يعبِّر عنه (ائتلاف العراقية). وإذا كان هذا التحوّل دليلا على القلق الذي يرافق صناعة النخبة السياسية السنّية، التي نرى أنها تُصنع الآن بعد أن وقفت سيطرةُ نظام البعث على الفضاء السياسي السنّي عائقا دون نموّ نخبة سياسية سنّية، فإنه أيضا دليل على تحوّل البناء الطائفي إلى داخل الفضاء العلماني.

وفي الإطار نفسه، نفهم المشكلةَ التي أثارتها (هيئةُ المساءلة والعدالة) في مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي، وهي الهيئة المكلّفة بـ quot;تفكيك منظومة حزب البعث في المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني فكرياً وإدارياً وسياسيا وثقافياً واقتصادياًquot;، بحسب ما يقول قانونها، وذلك باستبعاد المئات من المرشّحين للانتخابات النيابية القادمة، ومنهم عدد من أبرز الزعماء السنّة، من قبيل النائب صالح المطلك، الذي كشفت انتخاباتُ مجالس المحافظات السابقة أنه بات يتزعم أكبر قوة سنّية.
لقد وضع فشلُ الأطراف السياسية العراقية في بناء كتلة وطنية الجميعَ أمام مواجهة طائفية مكشوفة. ولعل الملامح التي حاولتُ وصفَها فيما تقدّم (بناء ائتلاف سنّي كبير، ثم ائتلاف شيعي مقابِل، حتى وإن كان ائتلافا وقتيا عقب الانتخابات النيابية لضمان تشكيل حكومة بزعامة شيعية) هي عناصر في هذه المواجهة. غير أن العنصر الأكثر حدّة، هنا، هو الاستبعاد الذي طال زعامات سنّية ومرشحين بارزين بدعوى شمولهم بإجراءات (هيئة المساءلة والعدالة).


وعمليا، أنا لا أتصوّر أن المشكلة القائمة تتعلق فعليا بتراث حزب البعث، الذي حكم العراق لنحو أربعة عقود وأنتج نظاما شموليا استبداديا، ومحاولة تصفيته أو تفكيكه، بل لقد أصبح (البعث) فضاء يُخاض داخله الصراعُ الطائفي.


لقد كانت الستراتيجية الأساسية التي اعتمدتها النخبةُ الشيعية الحاكمة في هذا الصراع هي بناء تدريجي ومعقّد لمطابقة سياسية بين (البعث) و(السنّة). ومن ثم، تكون ورقة (البعث) ورقة تستعملها في اللحظات التي يُستعاد فيها الصراعُ الطائفي. وقد كانت الأداة التي خِيض بها هذا الصراع هي مؤسسات الدولة الدستورية والقانونية (ومنها quot;هيئة المساءلة والعدالةquot;)، مع تأويل سياسي للدستور والقوانين نفسها التي كانت النخبةُ الشيعية الطرفَ الأساسي في كتابتها وصياغتها. وبالفعل، كانت النخبةُ الشيعية الحاكمة تستعمل وتوظِّف هذه المؤسسات في الصراع الطائفي، تماما كما استعملت أجهزة الدولة الأمنية في النزاع الطائفي الذي اندلع عقب تفجير ضريح الإمامين العسكريين في مدينة سامراء في شباط/ فبراير 2006. وهو ما يعني تراجع مشروع (بناء دولة القانون)، الذي أطلقه المالكي.
وبالأحرى، كان تراجع مشروع بناء ائتلاف وطني يعني ويستلزم تراجعا في مشروع بناء الدولة.

توافقية بمحتوى ديمقراطية تنافسية
قلتُ سابقا إن ثمة فكرة (لم تنضج وتصبح قراراً بعد) تدور بين (ائتلاف دولة القانون) و(الائتلاف الوطني العراقي) بالتحالف بعد الانتخابات لتشكيل حكومة، يسيطر عليها الشيعة من جديد.


وعلى نحو عام، تنبني داخل النخبة الشيعية الحاكمة رؤية بضرورة تعزيز سيطرتها، سواء على المؤسسة الأمنية والعسكرية، أو القرار السياسي، أو المؤسسات التنفيذية للدولة، أو التخطيط الاقتصادي، بمعنى أنها تقود مشروعاً لاحتكار وحصر أكثر للصلاحيات، وذلك انطلاقاً من تفسير تتبناه بأن الخلل الذي شاب عملَ الدولة في المرحلة السابقة إنما يرجع إلى توزيع السلطات والصلاحيات، وفق الصيغة التي تُعرَف باسم (الديمقراطية التوافقية).


ويبدو أن النخبة الشيعية ستعمل، بعد الانتخابات، على بناء ائتلاف حاكم من عدد محدود من الكتل السياسية، التي لا تمثل بالضرورة سائر مكونات المجتمع العراقي. وهو ما يعني العودة إلى نظام أكثروي، والخلاص من تقاليد النظام التوافقي، الذي حاول الأمريكان إرساءه في العراق ما بعد 2003، بوصفه النظام الأكثر صلاحية لمجتمع تعددي، على غرار المجتمع العراقي.


لقد كان واضحاً من تصريحات المالكي أن النية تتجه إلى تشكيل ما سمّاه (حكومة أغلبية). وهو التصور نفسه الذي يتبناه (الائتلاف الوطني العراقي). يقول هادي العامري، رئيس منظمة بدر والقيادي في الائتلاف، إن الائتلاف يعارض تشكيل حكومة وحدة وطنية وquot;أن أفضل ما يخدم الديمقراطية في العراق هو حكومة تضم فصائل سياسية لها نفس التوجه الفكري في مواجهة معارضة قوية قادرة على تقييد سلطاتهاquot;. وبصراحة أكثر، يقول عبد الهادي الحساني، عضو الائتلاف: quot;إذا ما أتى مكون بأغلبية في الانتخابات فستشكل هذه الكتلة أو المكون الحكومةَ، [...] ولا يمكن تشكيل حكومة توافق وطني في المستقبل لان حكومة التوافق ستكون ضعيفةquot;.


هذا، في تصوّري، خطوة أخرى في النزوع الذي تتخذه النخبةُ السياسية الشيعية في معارضة النظام التوافقي. وإذا كنتُ قد افترضتُ، سابقاً، أن دستور 2005، الذي كان للنخبة الشيعية الدور الأكبر في صياغته، قد قضى على عناصر أساسية في النظام التوافقي الذي تضمنه (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية TAL)، الذي أقرّته (سلطةُ الائتلاف الموقتة CPA) في آذار/ مارس 2004، فإن ما يجري اليوم هو خطوة أبعد،.. خطوة تحاول أن تتم مشروع استبدال التقاليد التوافقية، التي طبعت النظام السياسي لعراق ما بعد صدّام، والعودة إلى نظام أكثروي.


وبالأحرى، إن ما تحاوله النخبةُ الشيعية هو إعادة تعريف العلاقة بين الأركان، أو المكوّنات، أو النخب السياسية التي كوّنها نظام توافقي يقوم على أساس الهويات الإثنية أو الدينية أو الطائفية، وجعلها علاقة تقوم على قوانين الديمقراطية التنافسية، التي يمكن أن تكون صالحة لنموذج قومي كلاسيكي. وبكلمة مختصرة: ما تحاوله النخبةُ الشيعية هو تفريغ النظام التوافقي من محتواه، وبناء توافقية بروح ديمقراطية تنافسية.


يحدث هذا في ظل افتراض (غير مؤكّد) تتبناه النخبةُ الشيعية، وهو أن الكتل السياسية الحالية لا تعبّر عن هويات، على نحو ما كان عليه الحال سنة 2005، بل هي كيانات (وطنية). وبالتالي، لا تعبِّر الأغلبياتُ والأقليات الناتجة عن الانتخابات عن وضعية ديموغرافية، بقدر ما هي أغلبيات وأقليات سياسية، نسبية وغير ثابتة، الأمر الذي يجعل تداول السلطة بينها أمراً ممكنا وحيوياً.


ولكن، لو فهمنا الكيانات الحالية بأنها كيانات معبِّرة عن هويات طائفية وإثنية، في ظل البرهان الذي حاولت هذه المقالةُ أن تعرضه وتدافع عنه، فإن هذا النظام سيضعنا أمام المفصل الآتي: حاكم أبدي، ومعارض أبدي، من دون شراكة في السلطة. وهذه هي العتبة نفسها التي قادت العراقَ إلى نزاع أهلي عنيف، إذ لم يكن بمقدور الآليات الديمقراطية أن تعبِّر عن مصالح سائر الجماعات في ممارسة السلطة وحيازتها والوصول إليها. ومن ثم، اختُزل تداول السلطة بكونه تداولاً داخل نخبة جماعة محدّدة.
وهكذا، سيكون أمام النخبة الشيعية، والنخبة السياسية العراقية عموماً، رهانان مفهوميان:
الأول هو هل النظام التوافقي هو، فعلاً، النظام الأكثر صلاحية للعراق إذا فهمناه وتعاملنا معه على أنه بلد تعددي، أم ينبغي له أن يختار نموذجاً قومياً بفهم أنه يمثل أمة واحدة، وأن الانقسامات والصراعات والتعبيرات الهووية الحالية هي عَرَضية، وخارجية، وغير أصيلة؟ ومن ثم، هل التوافقية هي آلية للاستقرار أم طريقة للتقسيم؟
والرهان الآخر هو هل المشكلات التي اعترضت النظام السياسي لعراق ما بعد صدّام تخص جوهر النظام التوافقي أم أنها تتعلق بشكل وصيغة التوافقية التي اختيرت؟ وهل تكون معالجةُ خلل التوافقية بالعودة إلى نظام أكثروي، أم بتطوير وإنضاج النموذج التوافقي؟


هوامـش

يُنظَر: وطنية شيعية صاعدة ولامركزية هادئة: قراءة في انتخابات مجالس المحافظات في العراق/ كانون الثاني 2009، حيدر سعيد، مركز الأبحاث العراقية، بغداد، 2009، ص 22.
يُنظَر: العراق أمام (شبح) المركزية، حيدر سعيد، مجلة آفاق المستقبل، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، السنة الأولى، العدد 1، 2009، ص 14.
يُنظَر: وطنية شيعية صاعدة ولامركزية هادئة، ص 3، 5، و: العراق أمام (شبح) المركزية، ص ص 12 ـ 13.
حصلت (القائمة العراقية الوطنية)، في انتخابات مجالس المحافظات السابقة، على 26 مقعدا، 11 منها في محافظات البصرة وبابل والديوانية وواسط، و10 في محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين ، فضلا عن 5 مقاعد في العاصمة بغداد، بمعنى أن نسبة ما حصلت عليه القائمة في المحافظات السنّية هي (1,8%)، وهي ضعف النسبة التي حصلت عليها في المحافظات الشيعية، والتي تبلغ (4,4%) (يُنظَر: وطنية شيعية صاعدة ولامركزية هادئة، ص 6).
يُنظَر: الإشكالات المنهجية لدراسة السنّة في العراق: تحولات النخب وصناعة الهوية، حيدر سعيد، جريدة أوان، الكويت، العدد (228)، 4/ 7/ 2008، ص 15.
يُنظَر: وطنية شيعية صاعدة ولامركزية هادئة، ص 18.
لنلاحظ أن (هيئة المساءلة والعدالة)، التي اتخذت قرارات الاستبعاد، تُدار الآن من أطراف سياسية داخلة في اللعبة والصراع الانتخابيين، فرئيسها بالوكالة، أحمد الجلبي، ومديرها التنفيذي، علي فيصل اللامي، مرشّحان للانتخابات النيابية القادمة على قائمة (الائتلاف الوطني العراقي).
يُنظَر: لتواصل الإعلاميين مع دولة رئيس الوزراء، على الموقع الإلكتروني لـ (المركز الوطني للإعلام) التابع للأمانة العامة لمجلس الوزراء في جمهورية العراق، على الرابط الإلكتروني الآتي: http://www.nmc.gov.iq/pmmeet_answer.htm .
قيادي في الائتلاف العراقي: نساند وجود معارضة قوية داخل البرلمان، رويترز العربي، على الرابط الإلكتروني الآتي: http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE61N0LV20100224.
نائب عن ائتلاف دولة القانون: سنسعى للتحالف مع الكردستانية إذا ما حصلنا على الأغلبية، وكالة كردستان للأنباء (آكانيوز)، على الموقع الإلكتروني الآتي: http://www.aknews.com/ar/aknews/4/110228.
يُنظَر: ثراء التعددية وشقاؤها، حيدر سعيد، في: مراجعات في الدستور العراقي، مجموعة من الباحثات والباحثين، مركز عراقيات للدراسات، بغداد، ط 1، 2006، ص 75 وما بعدها.