التوصيف الأكثر إبتذالاً للحال في تركيا، والأكثر صدقاً في توطيد سياسة الأرض المحروقة تلك، هو ذاك الذي جاء على لسان دولت بغجلي رئيس حزب الحركة القومية المتطرف حينما دعى حكومة حزب العدالة والتنمية إلى quot;إعلان حالة الطوارئ الشاملة في البلادquot; وطالب هيئة أركان الجيش بquot;إحتلال شمال العراقquot; وquot;دك معسكرات حزب العمال الكردستاني وإعتقال كل قادته الميدانيين والسياسيينquot;!. التوصيف ذاك إنطلق من الأرضية الشوفينية، العصبوية، الإنكارية إياها، وخرج في الجو المشحون ذاك، في حمى إستنهاض الهمم في تركيا، والدعوة المفتوحة لقتل الصوت السياسي الكردي والإجهاز على البندقية الداعمة له.
التجلي الجديد/القديم ظهر على وقع العمليات النوعيّة الأخيرة التي نفذتها قوات حماية الشعب ( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني)، وشملت الخارطة التركية برمتها: إنطلاقاً من لواء الأسكندرون شمالاً، على البحر الأبيض المتوسط( الهجوم على قاعدة بحرية ومقتل 7 جنود أتراك) إلى مدينة ديرسم في عمق اقليم كردستان الشمالية، والبعيدة عن قنديل( معقل الكردستاني) مسافة شهر ونصف الشهر سيراً على الأقدام ( ومقتل 5 جنود أتراك)، مروراً بضفاف البحر الأسود وولاية أرزنجان( وضع الحواجز السيّارة على الطرق والتدقيق في هويّات المارّة)، ووصولا إلى العملية الأخيرة في اقليم شرناخ( مقتل أكثر من 20 جندياً تركيا) على الحدود مع كردستان العراق!.
ولم يكن بغجلي( اليميني، الشوفيني، الكاره لكل شيء غير تركي) المطالب برأس الكرد وسحق ثورتهم القويّة، مثلما جرت عادة الجمهورية التركية دائماً، وحده هذه المرة في ميدان المزايدة والتهديد، فقد سبقه الكثيرون، منهم quot; الديمقراطيquot; الذي دعى إلى حظر حزب السلام والديمقراطية وإعتقال كل نوابه وكوادره، ومنهم quot; الليبراليquot; الذي طالب بالإغارة على سجن جزيرة إيمرالي وقتل الزعيم الكردي الأسير عبدالله اوجلان، لأنه هو quot;من أصدر التعليمات للحزب بشن كل هذه العمليات وقتل كل هذه الأعداد من جنود الجيش التركيquot;، مثلما دعى إلى ذلك علانيّة أوندور آيتاج الأستاذ الجامعي، والكاتب في صحيفة ( طرف) القريبة من ردهات حزب العدالة والتنمية...
عمليات الرد العسكري الأخيرة، أربكت الجيش التركي الذي حشد ربع مليون جندي في مناطق وولايات كردستان الشمالية لمقاتلة حزب العمال الكردستاني، وصارّ ( وكلما تلقى ضربة موجعة لتحويله أرض الكرد إلى مناطق حربية تستباح فيها الطبيعة قبل حياة الناس)، يستغيث بالرأي العام ويتوعّد بالرد في عمق اقليم كردستان العراق!.
حزب العمال الكردستاني أعلنّ عن ممارسته لحق الرد المشروع وإنهاء وقف إطلاق النار من جانب واحد في بداية شهر حزيران الجاري. وكان لهذا القرار مايبرره من وجهة نظر الحركة الثورية الكردية: فالجيش التركي لم يتوقف لحظة واحدة عن شن الحملات العسكرية، وإستمرت طائراته في قصف مناطق قنديل، وهو الأمر الذي ادى إلى فقدان عشرات المقاتلين الكرد لحياتهم. وحكومة حزب العدالة والتنمية تابعت سيرها في طريق الحرب والحسم العسكري، فوضعت يدها على مشروع quot; خارطة الطريقquot; الذي تقدم به أوجلان لحل القضية الكردية، ورفضت الكشف عن محتواه حتى الآن. بينما سارت حملة الترهيب والإعتقالات ضد حزب السلام والديمقراطية( خليفة حزب المجتمع الديمقراطي الذي قامت المحكمة الدستورية العليا بحظره قبل مدة) بوتيرة عالية، ووصل عدد الساسة الكرد المعتقلين إلى أكثر من 1500 سياسي وكادر ورئيس بلدية. هذا ناهيك عن حوادث قتل الأطفال الكرد وإعتقالهم( 400 طفل كردي معتقلون حتى الآن بتهمة {ممارسة الإرهاب}!) والإعتداء على المتظاهرين وحرمان البرلمانيين الكرد من ممارسة السياسة( أحمد ترك وآيسل توكلوك) والإعتداء بالضرب على الساسة والبرلمانيين الكرد( أحمد ترك وسفاهير بايندر)، اضافة الى إقامة الدعاوي التي تتهم البرلمانيين الكرد بالخيانة والسعي للإنفصال وتطالب بإنزال عقوبات تصل إلى 7 آلاف سنة بحقهم!.
كل ما مر من مظاهر وتجليات للحرب التركية، الممنهجة والمخطط لها بعناية في (دائرة الحرب الخاصة) التابعة لمجلس الأمن القومي التركي، دفعت بأوجلان إلى اعلان انسحابه من المشهد السياسي في البلاد وترك الخيار للشعب الكردي ولحراكه السياسي والعسكري. وغياب أوجلان عن المشهد العام في تركيا، يعني غياب صوت العقل الأكثر إعتدالاً وإتزاناً ومرونة والأكثر كرهاً للحرب ولسفك الدماء. أوجلان الذي ظل ومنذ 1993، أي قبل مؤامرة إختطافه ب6 أعوام، يدعو الى حل القضية الكردية بالسلام والحوار الداخلي، وقد دفعته المسؤولية التاريخية إلى طلب وساطة جلال الطالباني، الرئيس العراقي الحالي، لكي يتصل بالرئيس التركي الأسبق توركوت أوزال ويعمل على بلورة مشروع سلام دائم.
ضربات حزب العمال الكردستاني جاءت قوية، ويبدو أن هناك ضربات أخرى أقوى، في ظل حالة الإقتدار والتوسع الميداني، في الكم وفي النوع، لجناح الحزب العسكري، وتشديد حكومة حزب العدالة والتنمية الخناق على الشعب الكردي والتنكيل بنخبه السياسية داخل البلاد. ويكفي أن نذكر هنا بأن منظمة ( صقور حرية كردستان) قد هددت قبل يومين الحكومة التركية بشن أعمال إنتقامية داخل المدن التركية، وأوضحت في بيان لها، بأن quot;كل مظهر من مظاهر القوة والسطوة التركية، ستكون هدفاً مشروعاً لكتائبهاquot;، وهذا يعني الكارثة في حال تنفيذ مثل هذا التهديد، وخصوصاً وان الموسم السياحي التركي في بدايته الآن( صحيفة بيلد تسايتونغ الألمانية الواسعة الإنتشار عدد 18/06/2010) وأي عملية، حتى وان كانت صغيرة، قد تطيح بمليارات الدولارات في هذا القطاع الاقتصادي الحيوي.
الجيش التركي لن يفعل أكثر مما فعله في شتاء عام 2008، حينما شن عملية توغل داخل اقليم كردستان العراق، طبل وزمرّ لها الإعلام التركي، ممهداً، لشهور، وإنتهت بالإصطدام مع 300 مقاتل كردي كلفوا بالدفاع عن منطقة ( الزاب) وكان نتيجتها إندحار الجنود الأتراك وإنسحابهم بشكل عشوائي، بعد مقتل 81 منهم، وهو الذي شكلّ مفاجأة كبيرة للجنرالات والساسة في أنقرة، والذين سمع بعضهم بالإنسحاب من وسائل الإعلام، بعد أن كانوا ينتظرون الظفر ويستعدون لإستقبال quot;رؤوس القادة الميدانيين الكردquot; على أسنة رماح جنودهم!.
حكومة حزب العدالة والتنمية تسابق الزمن للنيل من ارادة الشعب الكردي وكسر عزيمته، فقد عمدت أخيراً إلى إعتقال 9 من أعضاء ( وفود السلام) الذين أرسلهم حزب العمال الكردستاني إلى أنقرة كبادرة حسن نيّة فيما يخص السلام والحوار والحل الديمقراطي العادل. والمفارقة ان لحظة إعتقال رسل السلام هؤلاء، تزامنت مع لحظة إطلاق الحكومة لسراح عدد من الجنرالات السابقين المتهمين بالإنتماء لتنظيم ( أركنه كون) الشوفيني، الإجرامي، والذي كان يهدف للإنقلاب على الحكومة نفسها، بغية ارتكاب مجازر بحق الشعب الكردي وتصفية ساسته ونخبه الوطنية المعروفة.
لكي ينال من حزب العمال الكردستاني شعبيا، وquot;يسوّد صفحتهquot; داخل البلاد وخارجها، عمّد حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب اردوغان إلى إصدار فتوّى، كذبا فيها على الله وعلى الحقيقة، عندما قالا بوجود علاقة بين حزب العمال الكردستاني وإسرائيلّ!. بل ولم ينس أردوغان توظيف اللحظة بشكل مناسب عندما ربط بين الهجوم النوّعي لقوات الكردستاني على قاعدة بحرية تركية في لواء الأسكندرون مطلع شهر حزيران والهجوم الإسرئيلي على quot;قافلة الحريةquot; في غزة، وهو مانفاه الكردستاني بشدة وقال بان تحضيرات كبيرة استغرقت أياماً واسابيعاً لتنفيذ ذلك الهجوم، موضحاً بان الأمر لاعلاقة له لا بإسرائيل ولا بغيرها. والمفارقة هنا بانه وفي الوقت الذي يتهم فيه أردوغان الكردستاني بالتعاون مع إسرائيل، فإن طائرات quot; هرونquot; الإسرائيلية الصنع، والتي ابتضعها الجيش التركي من تل أبيب قبل أشهر فقط، هي التي ترصّد و تقصف مناطق quot;قنديلquot; وquot;خاكوركيquot; وquot;زابquot; وquot;حفتانينquot; في اقليم كردستان العراق!
والحال بان الربط التعسفي بين الكردستاني وإسرائيل، يأتي لضرورات إنتخابية يظن أردوغان بانه سوف ينال من حزب العمال الكردستاني فيها ويأكل من قاعدته الجماهيرية، وهو الرهان الذي راهن عليه أردوغان سابقاً، وفشل في إستحصال أي نتيجة منه، عندما غادر المناظرة المشهورة تلك إحتجاجاً على أقوال الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، وظن بأن ذلك سيسعفه في الإنتخابات البلدية 29/03/2009 أمام المد الجماهيري الطاغي لحزب العمال الكردستاني، ولكن فأله خاب وخسر الإنتخابات في كردستان، وإعترف بخسارته quot;بعظمة لسانهquot; عندما قالquot; يبدو ان الشعب في مناطق جنوب الشرق قد صوّت لهويته القوميةquot;. والرهان الآن على الإنتخابات النيابية القادمة بعد 10 أشهر، حيث ستكون quot; إسرائيلquot; هي كارت أردوغان مجدداً ضد حزب العمال الكردستاني.
الأوضاع في تركيا تتدهور شيئاً فشيء، والجانب الكردي بات لديه قناعة الآن تقول بأنه استنفذ كل فرص السلام وأصبح لايملك سوى الرد على حملات الحرب والإعتقالات والحظر والترهيب. والمواجهات ستدخل مرحلة خطيرة للغاية فيما لو إرتكبت الدولة التركية أي حماقة بالتعرض لحياة أوجلان. آنذاك لن يردع الجانب الكردي أي شيء للإنتقام وبشكل قاس للغاية لحياة قائد الثورة الكردستانية...
على حزب العدالة والتنمية أن يختار الحوار بدل مواصلة الحرب والرهان على سياسة الحسم العسكري. أما سماع كلام شخص مثل دولت بغجلي حول quot;إشعال كل مساحة جنوب شرق تركياquot; والحديث عن quot;إعدام أوجلانquot; فلن ينجح في حل القضية الكردية، كذلك لن تنجح quot;إعترافاتquot; بولند آرنج، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، المتأخرة وغير البريئة، حول quot;عجز قوات الجيش التركي عن إجهاض هجمات الكردستاني والرد عليهاquot;. كلا الرأيان ينبعان من ذهنية واحدة: الذهنية التي ساقت تركيا بكردها وتركها وبقية شعوبها، إلى هذه المواجهة الكبيرة، المشتعلة دماً ودموعاً، منذ أكثر من ربع قرن، والتي آن لها أن تنطفئ بشكل كامل، وللأبد.
التعليقات