قد يبدو هذا العنوان قاسيا وفيه طعم التعميم الذي لا يتفق والبحث الموضوعي المحايد. ولكن الواقع السياسي العراقي الحالي، في ضوء فشل القادة الجدد في تشكيل حكومة، منذ آذار الماضي، وفي ضوء اتفاضة الكهرماء الأخيرة، أثبت أن الساحة تفتقد الزعيم العابر للأحزاب والتيارات والطوائف والقوميات والأديان العراقية، والقادر على استقطاب ملايين الناخبين، ولم شملهم وليس تفريقهم، على اختلاف طوائفهم وقومياتهم وأديانهم ومناطقهم.
فلو توفر ذلك القائد المنتظر لانتزع مركز القيادة الأول بجدارة واستحقاق، مهما كانت المشاكسات والتدخلات الخارجية التي نلقي عليها اليوم جميع سلبيات التعثر الذي يعتري العملية السياسية العرجاء، ولكانت الحكومة قد تشكلت في أيام، وبدأ عصر القائد الضرورة الجديد..
ما دفعني إلى كتابة هذا الكلام مقالٌ ممتاز للكاتب العراقي غالب الشابندر وضع له عنوانا موفقا هو (مقتل حزب الدعوة بالمالكي، ومقتل المالكي بحزب الدعوة). فقد وجدت أن المبدأ ذاته ينطبق، بقوة وبوضوح وبدون أدنى شك، على جميع الأحزاب العراقية الأخرى وقادتها.
فكل حزب من تلك الأحزاب مختصر بقائده، ويقف جميع أعضائه على قدمي زعيمه، ويحاربون باسمه وبسيفه. ولو غاب ذلك الزعيم، بالموت أو الاغتيال أو العزل، لانفرط عقد الحزب كله، وتقاسمت أشلاءه الأحزاب الأخرى، إلا إذا كان له وريث.
حدث هذا مع حزب البعث، ومع حزب الدعوة، ومع الديمقراطي الكردستاني، ومع المجلس الأعلى، وسيحدث مع الاتحاد الوطني الكردستاني، والتيار الصدري وحركة الوفاق، وغيرها.
والحقيقة التي أكدها الواقع الإحصائي الانتخابي الأخير هي أن مجموع عدد المنتسبين إلى جميع الأحزاب والتيارات والتجمعات السياسية الحالية لم يتجاوز عشرة بالمئة من مجموع سكان العراق. وهذا معناه أن عدد المنضوين تحت أجنحة القادة الحاليين لا يتعدى ثلاثة ملايين إلا بقليل. وتبقى تسعة ٌُ وعشرون مليونا من المواطنين مستقلين غير منتمين إلى أحزاب.
إن عيب أحزابنا الحالية أن جميعها، باستثناء الحزب الشيوعي وحزب البعث، تشكل من فوق، وحاول النزول إلى تحت، بدل أن يؤسس من تحت ويسعى للصعود إلى أعلى. أي أنها أحزاب نخبة، والنخبة ملتفة بعباءة فرد، أما الجماهير فهي آخر من يعلم، وآخر من يستشار.
وفي هذا الإطار يمكن القول، مثلا، إن جماهير غفيرة من الشيوعيين تركت الحزب ولم تعد تنضوي تحت قيادته الحالية، لكنها موجودة وجاهزة للعمل السياسي لو توفر البديل القادر على إشعارها بالثقة والأمان. والشيء نفسه حصل مع البعثيين، وحصل مع الإسلاميين ومع العلمانيين ومع الديمقراطيين وغيرهم. حتى أحزاب الأقليات الدينية والقومية الصغيرة وتنظيماتها السياسية شهدت مقاطعة واسعة من شريحة واسعة من مواطنيها لم تثق بالمرشحين لتمثيلها.
فمع أول غياب للزعيم الوحيد لحزب البعث، مثلا، تشرذم الحزب وتفرقت ملايينه. وسيلاقي الوريثان المتصارعان اللذان ورثا تركة صدام حسين، جناح عزت الدوري وجناح يونس الأحمد، ذات المصير لو غاب أحد الزعيمين. ويقال إن عزت قد مات بالفعل، لكن أتباعه لا يعلنون هذه الوفاة، خوفا من التشرذم والضياع، وفضلوا أن يتكلموا باسمه ونيابة عنه، لعدم وجود زعيم يخلفه في القيادة.
ونفس الشيء يقال عن الوفاق وعن الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والمجلس الأعلى. فلو غاب عمار الحكيم، لأي سبب، فلن يتمكن عادل عبد المهدي ولا باقر صولاغ ولا الصغير من أن يمسك بعصا القيادة ويحافظ على وحدة الصف، إلا إذا كان لعمار وريث من آل الحكيم. ولو مات جلال الطالباني أو مسعود فسوف نشهد على الوراثة والخلافة معارك دامية داخلية لا يقدر هولها إلا الله والغارقون في السياسة.
أما القائمة العراقية التي قامت بحكم ضرورة مصلحية مرحلية عابرة، وبضغط وتمويل خليجييْن أمريكييْن بعثييْن، فهي معرضة لتشقق ثم انهيار، مع هبة أول ريح. بل إن بوادر انفراط العقد بدأت تلوح في أفق العراقية، حتى قبل أن ينفض اجتماع علاوي والمالكي الأخير. فقد راح رؤساء التجمعات السنية التي شكلت العراقية، وهم زعماؤها الحقيقييون، يلوحون بتجاوز رئيسها أياد علاوي، ويهددون بلفظه، ورميه خارج القطيع.
فقد فاجأنا بعض الكتاب المقربين من زعماء (العراقية) السنة، مؤخرا، بكلام خطير من قبيل ما يلي:
quot; ولان أياد علاوي بات مهووسا بمنصب رئيس الوزراء الذي شل تفكيره بالكامل كما يبدو دون ان يدرك ان (العراقية) باتت اليوم في احسن حالاتها سياسيا، بعد ان عجز الائتلافان الشيعيان، دولة القانون والوطني عن إتمام تحالفهما، فان المسؤولية الوطنية تحتم عليه الا يعطي كلمة دون الرجوع الى رفاقه في قيادة الكتلة والتشاور معهم في أي شأن يخص (العراقية) ويبدأ حالا في تسريح الذين التفوا حوله والذين لا علاقة لهم بـ(العراقية) وليسوا من اعضائها او انصارها، وانما هم مجرد اصدقاء او شركاء معهquot; (هارون محمد ndash; القدس العربي)
أو من قبيل ما يلي:
quot; الكتلة العراقية امام إمتحان عسير، فاما ان تخرج منه منتصرة كما خرجت في الانتخابات الاخيرة وهذا يستدعي من قادتها ان يكونوا بمستوى المسؤولية التي منحتها لهم الملايين التي صوتت لهم، او انها ستنحدر الى الهاوية إذا استمر اياد علاوي ومجموعته في الحديث باسمها والتفاوض نيابة عنهاquot; (المصدر السابق).
من هنا يتأكد لنا أن الأزمة السياسية المستمرة منذ آذار الماضي مرشحة لأن تستمر أشهرا أخرى، وقد تتصاعد أكثر، وربما تنفجر فجأة، لتشعل حروبا دامية يصعب التحكم بنتائجها وآثارها المدمرة، إذا بقي الوطن كـُرة ً تائهة بين أقدام رؤساء هذه الأحزاب الهشة الصغيرة ممن لا يرون أبعد من كراسي الوزارة وبريق المال العام. أما المواطن الذي أخطأ بانتخابهم فقد ندم ورفع في تظاهراته الأخيرة صورة لإصبعه الذي بصم به على استمارة الانتخاب، وهو مقطوع، ويقطر دما، حزنا على وطن ليس فيه زعيم.
التعليقات