في تصريحات أدلى بها الرئيس مبارك قبل نحو عشرين عاما، أجاب على سؤال يتعلق بسبب استيراد مصر للقمح من الولايات المتحدة وأوربا قائلا: quot; إحنا حسبنا تكلفة الاستيراد وتكلفة إنتاجه محليا، تبين أن تكلفة الاستيراد ارخص من تكلفة زراعته محليا فلماذا نزرعه ونحن نستورده بسعر اقلquot;. وهو ما يعني أن عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح كسلعة إستراتيجية له بعد سياسي، والقول السائد هو أن الولايات المتحدة تريد التحكم في هذه السلعة لفرض إرادتها على مصر، فمن لا يملك هذه السلعة الإستراتيجية لا يملك قراره السياسي.
وقد سار على هذه السياسة وزير الزراعة الأسبق quot; يوسف واليquot;، وتبنى سياسية عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح لمصلحة جهات أجنبية، وتشجيع الفلاحين على تبني مفاهيم جديدة في الزراعة، كالتوسع في زراعة الفراولة، والكانتلوب والفواكه، وتصديرها بحجة أن دخلها وفير، وتغيير مفاهيم الفلاح المصري التي تربي عليها منذ آلاف السنين، فقد كانت مصرquot; سلة غلال العالمquot; منذ عصر نبي الله يوسف عليه السلام، وحتى وقت قريب. كانت الأعطيات من مخزون القمح توزع تحت إشراف النبي يوسف بدون محاباة، واختلاسات، وعمل خاطر لمافيا الاستيراد.
إن قلبي يعتصر ألماً، وأنا أرى حكومة الدكتور quot;احمد نظيفquot; ترتبك كالعادة، حين أعلنت الحكومة الروسية إلغاء صفقات القمح التي تعاقدت على توريدها لمصر في الفترة من الخامس عشر من أغسطس الجاري وحتى نهاية ديسمبر المقبل وهي خمسمائة وأربعون ألف طن، بسبب موجة الجفاف والحرائق، وسارعت الحكومة إلى طمأنة الشعب المصري، وقالت إنها ستواصل دعم رغيف الخبز، وإن المخزون من القمح يكفي لأربعة أشهر، وتصاعدت التحذيرات من أن تجار الأزمات سيعملون على الاستفادة من هذا الوضع، وأصحاب المخابز يقومون بتخزين كميات من الدقيق، وبيعه في السوق السوداء للاستفادة من فروق السعر المرتفعة.
وإذا كان انخفاض إنتاج القمح الروسي سيحدث هزة في الأسواق العالمية، على اعتبار أن الإنتاج الروسي من القمح يصل إلى مئة مليون طن، يطرح منه عشرون مليون طن في الأسواق العالمية أي عشرون في المائة، فإنه مع هذه الأزمة سينخفض المطروح إلى ثمانية في المائة، وبالتالي سترتفع الأسعار، وبالفعل وصل سعر طن القمح عالميا إلى مائتين وسبة وسبعين دولارا، بعد أن كان مائة وأربعين دولارا، وهذا سيكلف الحكومة نحو خمسة مليارات جنيه، هذه الأزمة الخطيرة تتحمل تبعاتها حكومة نظيف خاصة وزارة الزراعة التي لم تنتبه لخطورة محصول استراتيجي قد يؤدي نقصه إلى حدوث مجاعة في مصر.
لقد انكشفت عورات هذا النظام، فيما يتعلق بسياسة عدم الاكتفاء الذاتي من محصول القمح، حتى نظل في حاجة للقمح الأمريكي والروسي وغيره، وحين تبنى وزير الزراعة السابق quot;احمد الليثيquot; سياسة تهدف إلى الاكتفاء الذاتي من القمح كان مصيره الإقالة ليحل محله من ينفذ quot;الأجندة الحكوميةquot; حتى لو كانت ضد quot;مصلحة مصرquot;، وهو نفس ما حدث مع وزير التموين quot;أحمد جويليquot; حين نفذ مشروع إنتاج رغيف الخبز من دقيق القمح والذرة بهدف الاستغناء عن القمح المستورد.
أليس من السذاجة أن يقول رئيس وزراء مصر quot;إن القرار الروسي بداية جديدة لتحفيز مصر على التفكير في تنويع مصادرها من استيراد القمح، والتعاقد مع فرنسا لشراء مائتين وأربعين ألف طنquot; بدلا من طرح الحل الدائم وهو الاكتفاء الذاتي بزيادة المساحات المزروعة من أربعمائة ألف فدان إلى مليون فدان وتوفير احتياجات مصر من القمح، بل وتصدير الفائض فليست المشكلة في ارتفاع الأسعار، أو نقض الاتفاقيات لكن المشكلة تكمن في استيراد سلعة إستراتيجية من الغرب حتى لو تكلفة زراعتها أكثر من استيرادها. لقد نجحت الصين وباكستان في الاكتفاء الذاتي وحتى بنغلاديش وهي من أفقر دول العالم حققت الاكتفاء الذاتي من القمح فلماذا ندفن رؤوسنا في الرمال.
إن المطلوب وبشكل عاجل تبني مشروع قومي لإنتاج القمح والذرة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي بالتوسع وبزيادة المساحات المزروعة وزيادة إنتاجية الفدان، وعدم الاعتماد بل والتصدير للأسواق الخارجية، وتشجيع الفلاح على إنتاج هذه الحبوب، وتقديم الحوافز للمزارعين، والوقوف في وجه مافيا استيراد القمح قبل أن يحدث مالا تحمد عقباه..
إعلامي مصري
- آخر تحديث :
التعليقات