إبراهيم الزبيدي

كانت الحرب العراقية الإيرانية حربا طائفية بامتياز، وكانت شرارتها الأولى هي فكرة الخميني في تصدير الثورة إلى العراق، ومنه إلى دول المنطقة الأخرى، لإقامة إمبراطورية فارسية جديدة، بعباءة الطائفة الشيعية وحدها، وبغطاء الفهم الخميني للإسلام. ولولا أنْ تصدت له الطائفة الشيعية العراقية التي أثبتت أن انتماءها القومي أكثر فاعلية من طائفيتها، ولولا طاغية ٌ عنيد آخر كان يمارس السياسة بالعضلات والاغتيالات وقطع الألسن والمقابر الجماعية، لكانت المنطقة كلها مستعمرة، ولكانت الانتفاضات التحررية من ربقة الاستعمار الفارسي لم تتوقف، ولم يتوقف معها القتل والحرق والاعتقال والاغتيال.
وعند هذا الحد يتحمل الإمام الخميني جريرة جميع الدماء التي سالت في تلك الحرب اللعينة، من الطرفين، خلالها وما بعدها، وكل ما احترق وتهدم من منازل ومدارس ومصانع ومستشفيات وجسور، وما ضاع من مال كان كفيلا بجعل إيران والعراق والمنطقة كلها جنان الله الوارفة.
وانتهت تلك الحرب على مضض وبعدم رضا من الإمام، حين تجرع كأس السم ووافق على وقف إطلاق النار. وليس صعبا على المراقب المحايد أن يتتبع انعاساتها وتأثيراتها وأضرارها المستمرة المتراكمة، منذ انهائها عام 1988 ولغاية اليوم. وأكبر تلك الآثار المدمرة هو استفاقة الحقد الطائفي المتشدد، وانتشار ناره في هشيم التجمعات الجاهلة، في العالم كله، من الطائفتين.
ومن أولى نتائج ذلك الجهل الطائفي وأوضحها للعيان حربُ الاستنزاف التي اندلعت بين ورثة الإمام وبين صدام حسين، عبر المليشيات المُشكلة إيرانيا لقتل الجنود والضباط العراقيين في أهوار الجنوب، حتى وأن كان كثير منهم من الطائفة الشيعية ذاتها. وهذه كلها، كذلك، دماء بريئة تعلق برقبة الولي الفقيه.
وكان المؤمل أن يفتح غياب الخميني صفحة إيرانية جديدة من الفهم الواقعي لتعقيدات المنطقة، ويُرسي قواعدَ تعامل ٍ جديدة ًبينها وبين جيرانها، أقل ما تتميز به هو تفادي حرب جديدة، ساخنة أو باردة، مباشرة أو بالنيابة، لتفويت الفرصة على القوى الحاقدة الخارجية والداخلية الراغبة في إشعال نارها من جديد.
ثم سقط نظام صدام بدبابات أمريكية خالصة، ولكن بمعونة إيرانية وسورية أسدية لا تنكرها إيران، بل تباهي بها على ىالدوام. يومها دخل العراق في عصر المفخخات المتبادلة بين المليشيات القديمة الجديدة المُولدَة والممولة والمسلحة من إيران، وبين (مقاومات) سنية تمولها وتسلحها دول وأحزاب من الطائفة المقابلة، وكلها تتمسح بمقاومة الاحتلال، لكن ضحايا (جهادها)، في أغلبها، كانت من العراقيين وليست من المحتلين. ثم يكتشف العالم بعد ذلك أن إيران ترعى القاعدة وترسل بعض (فرسانها) من حليفتها الكبرى، سوريا، إلى مدن وقرى لا تقع في العراق السني وحده، بل في الشيعي كذلك، لتعميق الضغينة أكثر وشحن الأغلبية الشيعية لنصرة الولي الفقيه، باعتباره حامي حمى الطائفة، في العراق وفي جميع الدول العربية والإسلامية الأخرى كذلك. وبين هذا وذاك أيضا سالت دماء غزيرة، واحترقت منازل ومدارس ومساجد وأسواق عديدة، وُتعلق، كلهُا أيضا، برقبة الولي الفقيه.
ومنذ العام 1988 وإلى اليوم، وإسرائيل، ومعها أعوان آخرون كثيرون محليون وخارجيون، تقدح زناد الحرب المطلوبة بين سنة وشيعة، في المنطقة. ورغم فشل محاولاتها، الواحدة تلو الأخرى، إلا أنها لم تتوقف عن المحاولة.
ولكننا، بفعل طائفية البعض منا وتخلفه أو جهله، وهمجية البعض الآخر ودمويته وأنانيته الحيوانية العمياء، لا نكف عن تقديم الفرصة بعد الفرصة لها لتحقيق هذا الحلم الخبيث.
وبإصرار إيران على سياسة التحدي والتهديد والمشاكسة والمناكفة والابتزاز وتحريك الطوابير الخامسة، ومع اتساع تمددها العسكري في سوريا ولبنان وفلسطين، وما استتبعه من اختلالات واحتلالات واغتيالات، جعل تلك الحرب غير مستبعدة.
شيء آخر. فمنذ بداية التصميم الإيراني على امتلاك السلاح النووي، ومع تسارع العقوبات الدولية، وتصاعد الحديث عن ضربة إسرائيلية أمريكية محتملة لتدمير منشآتها النووية، أصبحت تلك الحرب واقعة لا محالة. فجميع تهديدات إيران الانتقامية تتركز على ضرب آبار النفط ومصافيه، ومضيق هرمز، إضافة إلى التلويح والتحريك الفعلي لبعض الخلايا الايرانية في الدول المجاورة، جعل حكومات دول الخليج وشعوبها تدرك أن أمنها وثرواتها هي الهدف الأول، بل يكاد يكون الوحيد، لجيوش إيران وأسلحتها المتطورة. ومن هنا أصبح الاصطدام آتيا وليس ببعيد.
وكما في إيران، ففي سوريا أيضا كانت سياسة القمع والقهر والقتل والاعتقال والاغتيال الخيار المتوفر الوحيد أمام الأب الراحل، ثم صارت هواية الوريث.
فعلى تراب سوريا، من أربعين سنة، سالت دماء كثيرين، وفي السجون رزحت وترزح الألوف من المعتقلين المعارضين. وهذه أيضا، كلها، معلقة في أغلبها، برقبة الولي الفقيه.
وفي لبنان، من أيام قوات الردع السورية، إلى احتلالات حزب الله واغتيالاته وحروبه الداخلية والخارجية، صارت مقابر الشهداء هي الأكبر والأوسع والأكثر انتشارا، في هذا البلد الجميل. وذنبها كله معلق أيضا برقبة الولي الفقيه.
وفي فلسطين أيضا، تغلغلت الأصابع الإيرانية لتشعل نيران المذابح (الوطنية) الفلسطينية بين موالين لإيران ومعارضين. ويمكن ايضا تعليق دماء ضحاياها برقبة الولي الفقيه.
ثم جاء الربيع العربي في وقته المناسب تماما. ورغم أن خامنئي هلل، باللغة العربية الفصحى، لانتفاضتيْ تونس ومصر، معلنا أنهما امتداد لثورة الإمام الخميني، إلا أن اندلاع انتفاضة ٍ غير متوقعة في سوريا، واتساعَها وصمودَها سنة كاملة، وفشلَ النظام في وأدها، قلب َ حسابات الولي الفقيه، ودفع به إلى أن يتخندق مع الظالم ضد المظلوم، ومع القاتل ضد المقتول، بسلاح مهرب من إيران عبر العراق، أو مستورد ٍ من روسيا، بعد أن تدفع ثمنه إيران مع سبق الإصرار والترصد والتصميم، باعتبار أن النظام السوري هو حليفها الاستراتيجي المتقدم، والضامن الوحيد لنفوذها في المنطقة.
وفي هذه النقطة بالذات لا ينبغي أن نهمل حقيقة أن التواجد الإيراني الاحتلالي في سوريا، ماليا وعسكريا ومخابراتيا، وحتى فكريا وثقافيا، أحدُ أسباب النقمة على نظام الأسد، والدافع الأقوى والمحرك الأهم للغضب العارم الذي فجر الثورة على الحاكم الذي جير الوطن وأهله للغريب، ليجري في سوريا ما يجري منذ عام مضى وإلى اليوم.
هنا جاء دور إسرائيل لعرقلة سقوط بشار، واستثمار الصراع السني الشيعي الجديد. مع الإقرار بأن إسرائيل وأمريكا لا تعارضان رحيل بشار، بل هما من أنصار خروجه من الحكم، وربما من الحياة، ولكن ليس قبل إغراق إيران أكثر، وإلى أقصى حد ممكن، في الوحل السوري، وإنهاكها ماليا وعسكريا وسياسيا، وتقليم أظافرها المحلية السورية واللبنانية والفلسطينية، وإجبارها على التخلي عن أحلامها الإمبراطورية.
هذا طبعا مع ابتزاز الخليجيين إلى أقصى درجة ممكنة، بتمويل الانتفاضة وتسليحها، وتوفير الإعانات الإنسانية لمدن كاملة منكوبة، ولملايين اللاجئين في سوريا ذاتها وفي الدول المجاورة. بالإضافة إلى ما عليهم اقتناؤه من أقمار وطائرات وصواريخ وخبراء لمواجهة حماقات انتقامية إيرانية محتملة إذا ما ضاق عليها الخناق. وهذه الأموال والجهود الضائعة، كلها تعلق أيضا برقبة الولي الفقيه.
وأغلب الظن أن المطلوب، تحديدا، إسرائيليا وأمريكيا، وربما أوربيا أيضا، في المدى المنظور، هو بقاء نظام بشار مشغولا بسحق الجماهير الثائرة، مع استمرار الانتفاضة، وتصاعد أعمالها العسكرية الانتقامية، في آن، إلى أن تهتريء سوريا، شعبا وحكومة، ويُصبح َ كلُ طرف فيها جاهزا للقبول بأية حلول. وفي هذه أيضا يُعلق ما سال من دماء، وما سوف يسيل، من المنتفضين ومن شبيحة النظام، معا، برقبة ذلك الولي الفقيه. فلولا قواته ومخابراته وشبيحته وحزبُه اللبناني وأمواله المدفوعة لبشار ولروسيا والصين، ولولا كره أمريكا وإسرائيل وأوربا لوجوده في سوريا وفي لبنلن، ورغبتها في كسر أنفه وقطع أذرعه المخربة، لهدأت تلك النار اللعينة، من زمان