قالوا اذا كان الله يحبك فإنه يجتبيك للمشقات، وقالوا اذا عزفت عن ذكر الله فإن لك معيشة ضنكا. فحرت بين القاعدتين، وفقدت القدرة على معرفة ذاتي هل أنا من الفريق الأول أم الثاني؟ المهم أنه قدر لي أن أقضي 13 عاما في بئر مظلم لم أتمكن من الرؤية الواضحة فيه، فبقيت في ظلمات من فوقها ظلمات، لكنني خرجت بمدارك جديدة. وأول الإدراك كان أنه في هذه الأرض يجتمع النقيض مع النقيض ويتعايشان فتثبت مقولة المادية الجدلية بأن التناقضات سر استمرار الحياة، فالسالب يتعايش مع الموجب، وبذرة الدمار تعجز عن الفتك بها.

رأيت الثروة إذ تقتل القيم المثلى ورأيت النعمة تدفع صاحبها في غياهب الضلالة بحثا عن الرشد. كائنات تتحرك بالأبيض والأسود مجبورة عليه لكن نصف كلامها أعجمي وتفتن في اقتناء كل ما تراه في عالم الأزياء وما يردتديه نجوم هوليوود وبوليوود. تقيم الصلاة إذا كان هناك من يراقب، وتخشى البوح بما يعتمل في فكرها مخافة غضب الثقافة المفروضة عليها كوسيلة لاستقامة الحال وسلامة الروح والجسد. فاستقام الجسد ووهنت الروح.

رأيت كائنات لغتها العربية مكسرة ومشوبة بلكنات أعجمية تحمل جنسيتها وتجر الناس بعيدا عن تراثها وعرقها. رأيت كائنات تسمع الأخبار وتستغرب لكنها تعزف عن الإدلاء بدلوها خشية العقاب والخروج عن الدائرة المرسومة لها مسبقا والتي تقصر نشاطها على العمليات البيولوجية التي تكفل لها استمرار الحياة. وخشية الاتهام بالتفلسف في مجتمع لا يأبه بالبحث عن الحقيقة.

رأيت اقتصادا مهولا أحدث انقلابا في كل مظاهر الحياة لكنه لم يترافق بتقدم مواز في نمط التفكير وارتقاء في قيمة العمل والعامل، بل لقد تدهورت قيمة العمل بعد أن صار كل شيء يقدمه قطاع الخدمات دون الحاجة لبذل أدنى مجهود، ففقد العامل قيمته، وطغى صاحب العمل حتى خال نفسه ولي النعمة ولولاه لمات العامل جوعا وتشردا وكثيرا ما ضُرب معلمو المدارس من قبل الطلاب المترفين. ونظرا لكثرة الأفواه الجائعة في العالم فقد وجد ولي النعمة نفسه ملكا غير متوج يسعى الكثيرون إلى رضاه على حساب إنسانيتهم.

وهذا الملك المسكين بات ضحية ازدواجية ثقافية وشتات فكري، فلم يعد يعرف أين موقعه، وهل هؤلاء المسبحون بحمده يحبونه أم يخشون على قوتهم الذي يتحكم به، وصار يتأرجح بين الحداثة والموروث الثقافي الملتصق به، ولكي ينهي حيرته ويريح نفسه، قرر أن يستند إلى الأساس الذي يستدعيه الموقف وتمليه المصلحة. فتارة يتمسك بالموروث لكي يقنع المشككين في أصالته وتارة يتمسك باستحقاقات دوائر العقد والحل العالمية لكي يضمن بقاءه وأمنه حتى لو ضحى بكل بني جلدته. والرعية سلمت أمرها لحادي ركبها ولم يعد يهمها ثوابت ولا أصول طالما أنها تتمرغ باللذات المحلية والمستوردة. وطالما أن عربة التسوق تتيح تحقيق الذات بطريقة نادرة لا يقوى على مجاراتها أحد، فلماذا التعب؟

لقد أخطأ إخوان يوسف الحكم. وخاب مسعى صويحبات يوسف. وكان أسهل وأقل تكلفة لهم كسب محبة السواد الأعظم بأقل من ربع التكلفة من خلال المساهمة الإيجابية والتضامن مع بني جلدتهم بدلا من المليارات التي هدرت في سبيل تدميرهم. وهي طريقة سهلة تجعلهم أسيادا دون أن يسعوا لتلك السيادة. وتدخلهم في قلوب العامة بدلا من الاستعلاء والخبث الذي جعلهم يتجشمون خسائر مادية ومعنوية. فالإنسان جسد وروح ولا يمكن للمال وحده أن يلبي احتياجات الإنسان ويجعله راضيا عن نفسه. والعرب بسطاء وتحركهم الحمية القبلية وينتمون لبعضهم بعفوية غير موجودة لدى هؤلاء الذين خطبوا ودهم ودفعوا لهم الكثير من رصيدهم المادي والمعنوي. ولكن لسوء الحظ فالغالبية لديهم أعاجم وإن كانوا يحملون جوازات سفرهم.