إن وراء كل مقال مغزى، والحديث عن دور القوى الاستعمارية في تأسيس الأحزاب الدينية أصبح شائعا وبات الجميع يعرفون أن القوى الاستعمارية هي من أسس هذه الأحزاب ودعمها وقام بتمويلها لتحقيق أهداف معينة، ولكن التذكير بالأمر وإعادة طرحه ضروري بين الفينة والأخرى لكي يقرأ من لم يقرأ من قبل ويفهم الصورة الشمولية للموقف قبل أن يقع فريسة لمن يعزف على وتر الدين وفريضة الجهاد المقدس.

تعود فكرة استغلال الأصولية الإسلامية إلى جون فوستر دولز وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس آزينهاور في الخمسينات من القرن الماضي لاستغلالها في مواجهة القوى المعادية للولايات المتحدة كالشيوعية وحركات مقاومة الامبريالية الغربية، ولم تكن الفكرة موجهة نحو العرب بل لقد تم تأسيس جماعات إسلامية متطرفة في أنحاء العالم مثل الجماعة الإسلامية في جنوب آسيا ومسجومي ونهضة الأمة في أندونيسيا. فقد ارتأت الولايات المتحدة أن أفضل وقاية ضد الحركات الوطنية المناوئة للإمبريالية هي الحركات الإسلامية التي تتصدى بدورها للقوى الوطنية والعلمانية والطوائف الإسلامية الأخرى والحركات اليسارية. وأبرز مثال على تحقق ذلك فعليا هو هبة الإخوان المسلمين ضد جمال عبد الناصر في الخمسينات من القرن الماضي.

أما تنظيم القاعدة فكان نتاج فكر زبجينيف برجنسكي في عام 1978 وكان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر وكان الهدف من تشكيل التنظيم هو التصدي للاحتلال السوفيتي لأفغانستان وقد أدى التنظيم المهمة التي أسندت إليه بفعالية وبراعة متناهية.

في كتابه قلاع من الرمال، قال جيرولايماتوس (2010) quot;لم يكن الأمريكيون هم السباقين لفكرة استغلال الحركات الإسلامية في مواجهة أعداء الإمبريالية، فقد سبقهم البريطانيون إلى هذه الفكرة في مواجهتهم مع الدولة العثمانية وفي أواخر العشرينات من القرن الماضي قاموا بالتبرع بمبلغ 500 جنيه استرليني من خلال شركة قناة السويس لحسن البنا لمساعدته في تأسيس حركة الإخوان المسلمين.

ولم يقتصر دعم الحركات الإسلامية على المسلمين من الطائفة السنية، بل لقد امتد إلى الطائفة الشيعية. وذكر ديف ستراتمان (2002) في مقال بعنوان quot;أعداء مفيدونquot; أن وكالة الاستخابرات الأمريكية لم تمانع بتسلم آية الله الخميني الحكم في إيران، وكانت على اتصال به أثناء وجوده في منفاه في باريس وكانت ترغب في تسلمه الحكم بدلا من الحركات المناوئة للإمبريالية. كما تعاونت إدارة الرئيس ريغان مع إيران

وباعتها أسلحة في ذروة حربها مع العراق في عام 1980 بعد اجتماع ويليام كيسي وجورج بوش مع رئيس ايران أبو الحسن بني صدر في باريس في أكتوبر من عام 1980.

فما معنى التذكير بهذه الحقائق؟ إن المستعرض للتاريخ وأحداثه يدرك أن الولايات المتحدة لا تقدم على أي عمل لا يخدم مصالحها. فما هي مصلحة الولايات المتحدة في دعم الحركات الإسلامية في مسار الربيع العربي؟

لقد فشلت الولايات المتحدة في السيطرة على إيران وطموحاتها الإقليمية، وباتت تدرك أن أية حرب تخوضها مع إيران ستكبدها خسائر لا قبل لها بها، فتدخلت بقوة في الثورات العربية لاستغلال الحركات الإسلامية بهدف تغذيتها وتمويلها وتمكينها من حكم البلاد العربية تمهيدا للخطوة التالية وهي إشعال حرب طائفية واسعة النطاق في المنطقة. ولا يخفى على أحد الفوائد العظيمة التي تجنيها الولايات المتحدة من اندلاع حرب طائفية ضروص في المنطقة برمتها من خلال بيع الأسلحة وارتفاع سعر النفط الذي يدر كنوزا على شركات النفط الأمريكية المنتشرة في المنطقة، وتدمير الجيوش العربية وضمان أمن إسرائيل إلى الأبد وفرض إرادتها على الجميع.

ومما يبعث على الاستهجان أن منتسبي الحركات الإسلامية هم من ذوي الكفاءات والمستوى العلمي الرفيع، وما هم بالجهلة ولا بالغافلين ولا بالخائنين. وأغلب الظن أنه وقر في وجدانهم أنهم سيلعبون بمهارة ويجيرون اللعبة لصالحهم ويقلبون الموازين، وفاتهم أن غيرهم جربوا ذلك ودكتهم آلة الحرب الأمريكية في بضعة أيام. ورأينا بأم أعيننا كيف دمرت الولايات المتحدة العراق وتركته مرتعا خصبا لإيران. فكيف لا يزال البعض يثق بالولايات المتحدة ودعمها المسموم الذي تخفي وراءه أجندات مدمرة للعرب جميعا؟

وخلاصة القول، اذا قدر لهذا الربيع العربي أن يزهر، فلا بد من الحكم العلماني الذي يصرف النظر عن الأديان وينشغل بالتنمية الاقتصادية القائمة على النزاهة والمحاسبة ومعاملة الحاكم كأي شخص آخر يتولى مسئولية معينة وعليه أن يؤديها بأعلى مستوى من الكفاءة. وهذا ما توصلت إليه كافة الدول المتقدمة التي طوت صفحة الحكم الديني منذ زمن بعيد، وشقت طريقها بالعلم والاقتصاد والوحدة الاستراتيجية فيما بينها.

لمزيد حول تاريخ الحركات الإسلامية يمكن مطالعة المصادر التالية:

Stratman، D. (November 2001 - February 2002) USEFUL ENEMIES. New Democracy Newsletter. http://www.newdemocracyworld.org/old/enemies.htm.

Gerolymatos، A. (2010). Castles Made of Sand A Century of Anglo-American Espionage and Intervention in the Middle East..Thomas Dunne Books. New York