لقد وُلِدت وتَنامت أظافرنا على وقع جرح إنساني عميق، تكلّمت عنه أمهاتنا وآبائنا ودَمعت عيونهم كثيرا لمجرد سماع أخباره على موجات وسائل الإعلام، درّسه لنا أساتذتنا في المدارس على أنه جرح المسلمين جميعا، ناقشناه في الحلقات والمنتديات والمهرجانات الجامعية بكل حرقة وتوتر وهيجان، خَرجت من أجله مسيرات حاشدات لجماهير العواصم والدول العربية والإسلامية والغربية، أُقيمت من أجله حرب العرب المصيرية لعام 67 وحصلت النكبة، تأسّست من أجله منضمات وأحزاب ومؤسسات من مختلف الأقطار والتوجهات، أُسيلت من أجله دماء كثيرة وأُنفقت لدعمه أموال كثيرة وعانى على إثره أجيال من الشيوخ والشباب والأمهات والأطفال، إنه جرح فلسطين الكبير.

منذ قرار الأمم المتحدة المجحف جدا تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية تجمع شتاة يهود العالم المضطهدين إثر محرقة الهولوكوست النازي، والعالم يعرف توترات وحروب مازالت تزعزع استقرار العديد من الدول سواء في الشرق الأوسط أو في مناطق إقليمية ودولية متباعدة. ولعل تنامي الإرهاب الدولي هو إحدى أخطر تداعيات تكالب الغرب مع مسلسل التقتيل الإسرائيلي للشعب الفلسطيني وجعل مستقبل السلام والتنمية المستدامة في المنطقة في خانة المستحيلات. لقد ارتكبت الآلة الهمجية الإسرائيلية ضد شعب أعزل يقاوم بالحجارة أكثر من خمسين مجزرة موثقة منذ سنة 1948 منها مجزرة دير ياسين وخان يونس وصبرة وشاتيلا التاريخية، وسقط الملايين من الشهداء والجرحى والمعاقين، وحدثت أكبر عملية اضطهاد شهدها القرن العشرون وما زال، حيث أكثر من سبعين في المائة من مجمل الفلسطينيين هم لاجئون ومضطهدون عرقيا. ونُزعت أكثر من نصف أراضي فلسطين غصبا وبُنيت مستوطنات على أعناق الشهداء، وهُجّر شعب بأكمله إلى مخيمات النفي والشتاة سواء في دول الجوار كسوريا ولبنان والأردن أو باقي دول العالم حيث يعيش الملايين بدون هوية ولا أرض ولكن بتاريخ مجروح. تلكم هي قصة فلسطين في بضعة سطور مجحفة.

بُعيد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005) أقدمت إسرائيل على تصفية أغلب كوادر وقياديي المقاومة بوسائل التصفية الجسدية الأكثر بشاعة أمام مرأى وأعين المنتظم الدولي بدون أن تعتبر مؤسسة دولية مثل الأمم المتحدة الأمر إجرام دولة. كان من هؤلاء جميعا استشهاد قائد ومؤسس حركة حماس الشهيد أحمد ياسين) وهو مقعد على كرسي متحرك، وتبعه مباشرة الشهيد عبد العزيز الرنتيسي (2004) ثم ختمت آلة القتل الهمجية مسلسلها البشع باغتيال رمز الصمود الفلسطيني ومؤسس منضمة التحرير الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات(2004 بسم مدسوس في جسد إنسان أعزل. وقد كانت بذلك إسرائيل قد أنهت إنتفاظة فلسطين الثانية بوابل من القتل وسفك الدماء طال جميع الشرائح العمرية الفلسطينية معتقدة أنها الطريقة الوحيدة لبتر شرايين التاريخ والهوية الفلسطينيتين. أما أكبر فعل عنصري لا يقل مكانة عن سابقيه من الأفعال الإجرامية الإبادية فكان بناء جدار الفصل العنصري الذي سجن الشعب الفلسطيني في قفص ضيق لا يتسع حتى للدواب فما بالك بشعب ألف الحرية وولد عليها مثل أغصان الزيتون. لقد كتب التاريخ مجددا سيرة الجدار بين مدينتين تجمع بينهما تشابه المكان ورمزية الحرية وقوة إرادة الإنسان، إنهما برلين والقدس فهل سيكتب القدر مجددا نفس المصير؟

إن رمزية القدس تتجاوز البعد الديني والعرقي والهوياتي إلى ماهو أعمق، إنها مدينة السلام والتعدد بين الأديان حيث عاش المسلمون والمسيحيون واليهود جنبا إلى جنب في سلام تام قبل أن تتم هتك عرض القدس من طرف العصابات الدينية سواء أثناء الحملات الصليبية أو في مرحلة الحملات الصهيونية الحالية. لقد بات من المستحيلات أن تنسى الذاكرة الفلسطينية وحتى الإسلامية إجرام الدولة الصهيونية الذي هوّد القدس ودمّر هوية شعب بأكمله من أجل خرافة الوعد اليهودي بتدمير بيت المقدس وإقامة هيكل سليمان المزعوم مكانه، ولن تنسى معه جميع الشهداء الذين قضوا دفاعا عن حقوقهم الطبيعية والتاريخية. إن القضية الفلسطينية تدخل ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني من الاستعمار والاضطهاد كما ذكر الشهيد ياسر عرفات في خطابه الشهير أمام جمعية الأمم المتحدة سنة 1974 حيث أضاف;إنني جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين وقد كانت هذه إشارة قوية ونية للم الجراح وإقامة سلام عادل وشامل كما كان يكرر دائما في خطاباته، ولكن الإرادات هنا تعددت والوعد الصهيوني لا يعترف بشيء اسمه السلام.

يبقى السؤال المحير قبل الحديث عن أية تسوية سياسية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وحول شروط قيام سلام بين الطرفين، هو حول مشروعية إسرائيل نفسها كدولة استعمرت واستوطنت وطردت وسجنت وشتّت ثم تكلّمت عن مجرد حكم ذاتي مشروط للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة المٌجزئتين. هنا تكمن إشكاليات المقاربة السلمية إن وُجدت حول شرعية الوجود خصوصا إن اعتبرنا أن الوجود اليهودي إلى حدود سنة 1967 لا يمثل سوى عُشر سكان فلسطين كلها، ورغم ذلك فقد تنازل من تنازل عن مطالب الشعب المشروعة بضغوطات اللوبيات الصهيونية وتكالب الأنظمة العربية معها في مجمل محطات النزاع بين الأطراف المتعددة. ومنها تعاون العديد من أجهزة الاستخبارات العربية مع نظيرتها الإسرائيلية في العديد من عمليات الاغتيالات التي قام بها الموساد في العديد من الأراضي العربية ضد رواد وكوادر المقاومة المسلحة الفلسطينية. ومع أن السلام هي مطلب الشعب الفلسطيني وهو مطلبنا أيضا كمتابعين للقضية- إلا أن الظروف الحالية ونهج القتل المتبع بوحشية من طرف الكيان الصهيوني الحاكم لا ينبئ بأن سلاما مستداما سيقع في المنطقة.

رغم ذلك فالتاريخ المعاصر شهد على أكبر عملية اضطهاد وقعت ضد شعب أعزل كان مصيره القتل والطرد والاعتقال تنفيذا لمقررات أكبر عصابة إجرامية عرفها التاريخ. لقد أغنت الملحمة الفلسطينية الباسلة رغم ذلك- الذاكرة الوطنية والقومية بقيم النبل والشهامة والكفاح من أجل الحرية التي اغتالتها الة الغدر الإسرائيلية المسلحة بجميع أنواع الأسلحة أمام حجارة الشباب الفلسطيني الحر. سنتذكر أحمد ياسين وياسر عرفات ومحمد جمال الذرة وجميع الشهداء وسنتذكر بلدات وقرى فلسطين من حيفا وجنين وطولكرم ويافا والقدس وغزة والخليل مرورا إلى مخيمات الشتات في لبنان وسوريا والأردن ووصولا إلى سجون الإحتلال، كما سنتذكر مجرمي الحرب القدرة وجرائمهم أمتال بن جوريون ونتانياهو وأرييل شارون وإسحاق رابين وغيرهم...سنتذكر الحرية دودا ضد الظلم والطغيان.